ثقافة الموت عمل شاقّ

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

ثمّة مَنْ يصبحون بموتهم أكثر قوّة وعنادًا؛ مقولة تصحّ حتمًا في حالة الفنّان الراحل أيمن صفيّة، الراقص الجريء؛ إذ كان علامةً فارقة في حياته حين لم يتردّد في التعبير عن هويّته الجندريّة علنًا، وحين امتهن الرقص واختاره طريقة حياة، وأصبح أيقونة في موته، عندما تحوّلت جنازته إلى مشهد هزّ الحيّزَيْن العامّ والخاصّ الاجتماعيّين؛ فشخصيّة أيمن غير التقليديّة أبت بموتها الاستسلام للأعراف الاجتماعيّة العامّة، ونجحت في وضع ثقافة الموت وطقوسه على طاولة النقاش الاجتماعيّ.

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

الجنازة والرأي العامّ

يمكن ادّعاء أنّ ما أدّت إليه جنازة أيمن، هو تقسيم الجماهير الغفيرة الّتي شاركت في جنازته، والرأي العامّ الاجتماعيّ في فلسطين التاريخيّة، إلى ثلاث مجموعات رئيسيّة: الأولى المتطرّفون دينيًّا الّذين يتّهمون أيمن وأصدقاءه بالشذوذ الجنسيّ والأخلاقيّ والإلحاد، ويقطعون بأنّهم من أهل النار الّذين لا يدخلون الجنّة، ويجب الحدّ من سلوكهم المتحدّي للمجتمع والأعراف.

تاريخنا الفلسطينيّ والعربيّ مليء بأدب الرثاء والخطب والأهازيج والنواح على الموتى، ومن ذلك الرقص الجنائزيّ، ويكون هذا الرقصة في حلقة، وتُسمّى حركاته بـ "الحجل على الميّت"، تشبيهًا بمشية طائر الحجل...

أمّا الثانية فهم المحافظون، الّذين عبّروا عن استنكارهم لمشاركة النساء والرجال في الرقص والغناء والتصفيق، ومحاولة دخول المقبرة؛ بحجّة الاعتداء على حرمة القبور والأموات.

أمّا الثالثة فهم المدافعون عن جنازة أيمن كما نُظِّمَت، وهم أصوات متعدّدة اجتمعت على أن تعبّر الجنازة عن شخص الراحل، وأن يكرّمه أصدقاؤه بالطريقة الّتي كان يرغب فيها، وتناسب معتقداته وآراءه وطريقته في الحياة، بالأشكال التعبيريّة الّتي اختاروها.

 

طقوس الحزن

تاريخنا الفلسطينيّ والعربيّ مليء بأدب الرثاء والخطب والأهازيج والنواح على الموتى، ومن ذلك الرقص الجنائزيّ، ويكون هذا الرقص في حلقة، وتُسمّى حركاته بـ "الحجل على الميّت"، تشبيهًا بمشية طائر الحجل، وهي ظاهرة انتشرت في مناطق عديدة في فلسطين، من الجنوب إلى أقصى الشمال، وبين المسلمين والمسيحيّين.

كانت هذه الطقوس ضمن الأمور المقبولة في المجتمع الفلسطينيّ، في التعامل مع الفقدان ومعالجة مشاعره، حتّى بدء تصاعد التيّار الدينيّ المعاصر، وتحديدًا المرتبط بالسلفيّة والإخوان المسلمين، فراح يحلّل ويحرّم كأنّنا لم نحترم موتانا من قبل، وكأنّ انتشار التديّن بهذا النمط جعل منّا مجتمعات أكثر أخلاقًا وقِيَمًا، وكأنّ ثقافة الموت الّتي راحت تعمّمها السلفيّة لم تخلّ بحرمة الموت والموتى، عندما أصبح الموت مشهدًا شبه ثابت في الشارع العربيّ.

هذه الحال جعلت الحديث عن الموت وطقوسه، والاستعداد لمناقشته في مجتمعنا، ليس بالأمر الشائع، وبالتأكيد ليس بالهيّن، ولا سيّما عندما يتعلّق الأمر بحقّ الميّت أو ذويه في الاعتراض على طقوس الجنازة والتأبين، بصفتها من المسلّمات والتابوهات الاجتماعيّة؛ فهذا الشأن يقتصر على المؤسّسة الدينيّة، وبالأحرى الذكور، في العقود الثلاثة الأخيرة.

 

إعادة صياغة ثقافة الموت

وفي السياق الّذي أصبح به التراث الرمزيّ الدينيّ على وجه التحديد، في وضعيّة صدام مع أشكال الحياة اليوميّة الّتي نعيشها، إلّا أنّ الموت وطقوسه، حظي بسيطرة تامّة من قِبَل رجالات الدين. وقد أسهم التيّار الدينيّ الشعبيّ، ومعه المؤسّسة الدينيّة، والجهاز التعليميّ الدينيّ، في صياغة ثقافة الموت والحياة والدنيا والآخرة، من خلال بثّ أفكار الترهيب والوعيد، من علامات الآخرة، وعذابات القبر، والطريق إلى جهنّم. ولأنّ علاقة معظم المجتمع الفلسطينيّ بالدين علاقة عامّة وشعبيّة، وقائمة على استخدام الرموز الدينيّة الّتي تُعَدّ المصدر الرئيسيّ المنظّم للخطاب الدينيّ، وغالبًا ما تخضع لسياسات المعرفة الّتي تؤطّر وتؤوّل وفق مصالحها؛ فإنّ هذا المضمون الحامل للتفكير العفويّ والشعبيّ وأمن المعرفة، جعل مساءلة الموت وطقوسه مسألة مركّبة وحسّاسة، ونصّب رجالات الدين حرّاسًا لبوّابة الآخرة، من خلال تمثيلهم دور المخَلّصين من عبء الذنوب، بواسطة الذكر الإلهيّ الّذي يلقّنونه للموتى والأحياء على السواء، حين يطلبون لهم العفو والمغفرة الإلهيّة، وكأنّنا بحاجة إلى وسطاء لطلب الرحمة والمغفرة.

تنتهز مجموعات دينيّة مختلفة - بصورة مُمَنْهَجَة – الموت، كونه لحظة انكسار وأزمة نفسيّة لدى أهل الفقيد، لبثّ أفكارهم وقيمهم، باستخدام الواعظين والواعظات، الّذين غالبًا ما يقدّمون خطابهم السلفيّ، وهي ظاهرة انتشرت في فلسطين في العقدين الأخيرين...

تنتهز مجموعات دينيّة مختلفة - بصورة مُمَنْهَجَة – الموت، كونه لحظة انكسار وأزمة نفسيّة لدى أهل الفقيد، لبثّ أفكارهم وقيمهم، باستخدام الواعظين والواعظات، الّذين غالبًا ما يقدّمون خطابهم السلفيّ، وهي ظاهرة انتشرت في فلسطين في العقدين الأخيرين، وغالبًا يكون بيت القصيد لدى مجموعات النساء، ويتلخّص بحفظ العفّة وضرورة صونها، لتبقى ذكرى الفقيد الطيّبة؛ بالتزام "الحجاب"، والتأكيد على أنّ الحياة زائلة، وأنّ علينا الاستعداد لبيت الآخرة. أصبح الموت مُسْتَخْدَمًا من قِبَل ممثّلي الدين وممثّلاته، منصّةً للترهيب ولفرض نظام السيطرة على جسد المرأة.

وقد منح رجال الدين أنفسهم رخصة مؤكّدة الضمان، عندما استولوا على مراسيم الدفن؛ فالحياة والموت وما يرافقانهما من ثقافة الآخرة ويوم الحساب، أمور مركزيّة في مجتمعنا، وإذ إنّنا مجتمع يعيش حالة من الأزمات القيميّة والاجتماعيّة، ونهاب الحديث والخوض في ثقافة الموت؛ أصبح رجال الدين ذوو التوجّهات السلفيّة والإخوانيّة يُشَرِّعون ويُحَرِّمون ويرسمون الحدود المقبولة وغير المقبولة، وأصبحوا يُفتون بالمسموح والممنوع في مراسم الموت وطقوسه، والأهمّ أنّ هذه التوجّهات أصبحت تُهَنْدِس الحيّز العامّ الاجتماعيّ في حالات الموت؛ فهي تقرّر مَنْ يحقّ له المشاركة في الجنازة ومَنْ لا يحقّ له، ومَنْ يصلّي على الميّت ومَنْ لا يصلّي، ومَنْ يدخل المقبرة ومتى، ثمّ غالبًا ما تطول هذه التحريمات النساء.

كلّ شيء في المجتمع الفلسطينيّ أصبح موضوع اختلاف اليوم، من السياسة، والهويّة، والجندر، والانتماء، والأسرة، وقوانين الأحوال الشخصيّة... إلخ. حتّى الموت لم يعد استثناءً في ذلك، بعد أن كان منطقةً لا تُناقش إلّا في حالات نادرة، وغالبًا يكون ذلك في إطار قصّة تراجيديّة، فتعلو بعض الأصوات ثمّ تُسْكَت سريعًا بذريعة العيب والحرام، أو التوقيت غير المناسب، أو حساسيّة الموقف، أو عدم الرغبة في افتعال المشاكل، وفق ما يقرّره الوكلاء. وحيث إنّ المجتمع الفلسطينيّ واقع تحت تأثير تيّارين مركزيّين: الأوّل يتبنّى قيم الحداثة والتغيير، والآخر تقليديّ وثابت، وكلا التيّارين يؤثّران فيه معًا، إلّا أنّ الإمكانيّات المقترحة والمفروضة في المجتمع الفلسطينيّ، في ما يتعلّق بثقافة الموت، تقليديّة ومتشدّدة عمومًا، وهي تتناقض ومعايير التحديث، كما أنّها في الأعمّ تجعل طقوس الموت أشبه بإسقاط واجب فارغ من المعنى معظم الأحيان، يثقل على كاهل المعزِّي والمُعَزَّى.

 

هندسة حيّز الموت الاجتماعيّ

يجب الإقرار بأنّ جنازة أيمن صفيّة وضعت موضوعًا شائكًا كالحقّ في اختيار طبيعة الجنازة وطقوسها على طاولة النقاش في المجتمع الفلسطينيّ، والأهمّ أنّ الجنازة اخترقت حيّز الموت العامّ، الّذي فرضه رجالات الدين تحت مسمّيات القيم والأعراف الدينيّة، وقدّمت نموذجًا بديلًا على الأقلّ في الوعي الاجتماعيّ لإمكانيّات أخرى؛ جنازة فيها الرقص والغناء والشعر والبكاء، يختلط فيها الرجال والنساء دون أن يصابوا بلوثة جنسيّة، جنازة استطاعت تجميع أكثر من معتقد سماويّ وغير سماويّ تحت مظلّة حزن واحدة؛ فالصلاة كانت إسلاميّة والعزاء كان في الكنيسة، وهي من أعظم الرسائل الفلسطينيّة وأجملها، وهي بالتأكيد ليست رسالة الدين السلفيّ والإخوانيّ؛ فصورة رجال الدين من مختلف الطوائف، أبناء البلد الواحد والحيّ الواحد، يصلّون جنبًا إلى جنب، أزعجت العديد من الأشخاص، لأنّها صورة نجحت في كسر النمطيّة والتابوهات. الجنازة أخلصت لأيمن وخياراته، وهذا ما أثار حفيظة مَنْ اعترض؛ فالاعتراض لم يكن على حرمة الأموات، فالموت واحد، ولم يَعُد أيّ من الأموات ليخبرنا عن حرمة الموت، إنّما كان الاعتراض على اختراق نظام الأحياء، نظام صارم جرت هندسته بهدف السيطرة على الحياة والموت.

من اللازم إعادة المساءلة في طقوس الموت والدفن، وعلاقتها بمختلف أنظمة المعاني الّتي تحكم السلوكيّات الاعتياديّة للمجتمع الفلسطينيّ، ومدى الانسجام الّذي يربط بين السلوك الاجتماعيّ...

هذا الاختراق أظهر أنّه من اللازم إعادة المساءلة في طقوس الموت والدفن، وعلاقتها بمختلف أنظمة المعاني الّتي تحكم السلوكيّات الاعتياديّة للمجتمع الفلسطينيّ، ومدى الانسجام الّذي يربط بين السلوك الاجتماعيّ، والمباني المعياريّة المعرفيّة الّتي نحن بحاجة إلى إعادة مساءلتها؛ نظرًا إلى ظهور أبعاد جديدة للتجارب الفرديّة والجماعيّة.

علينا إعادة فتح ملفّ "ثقافة الموت" ومساءلتها من جديد؛ فلكلّ فرد الحقّ في أن يختار الطريقة الّتي يريد من خلالها الانتقال إلى العالم الآخر، لكلّ فرد الحقّ في أن يختار مَنْ يريد ليمشي في جنازته، ومَنْ يريد أن يحمل نعشه، وإذا كان يريد أن يصلّوا على جثمانه أو لا، ومَنْ يصلّي عليه وكيف، وإن كان يفضّل البكاء أو الغناء عليه، وإن كان يريد أن يُكْتَب على قبره نصوص دينيّة أو شعر مثلًا، وإن كان يريد قبرًا متواضعًا أو حفرة بلا ذكر أو اسم، أو حرقًا لجثّته أو التبرّع بها لأغراض علميّة؛ فمَنْ يستطيع أن يختار في حياته يحقّ له الاختيار في مماته.

 

 

د. مرام مصاروة

 

 

محاضرة وباحثة في جامعة تل أبيب وأكاديميّة القاسمي. حصلت على الدكتوراه في "العمل الاجتماعيّ" من الجامعة العبريّة. صدر لها كتاب "تسييس وتديين الفقدان في المجتمع الفلسطينيّ".