وفا مصطفى: هل أريد لمَنْ عذّبني أن يتعذّب؟

وفا مصطفى حاملة صورة أبيها أمام «محكمة كوبلنز» في ألمانيا

 

تعرّفت إلى الناشطة والصحافيّة وفا مصطفى في مدينة غازي عنتاب التركيّة، بعد فترة من خروجها من بلدها سوريا، واختطاف أبيها المعارض علي مصطفى من قِبَل النظام السوريّ عام 2013، إلى حيث لا تعلم عائلته، فمع اندلاع الثورة السوريّة، اتّخذت عمليّات الاعتقال التعسّفيّ والاختفاء القسريّ، لدى النظام أو داعش أو تنظيمات أخرى، لمئات الآلاف من السوريّين، شكلًا ممنهجًا لردع المدنيّين عن التظاهر والمعارضة، منهم مَنْ لم تسمع عنهم عائلاتهم معلومة واحدة، ومنهم مَنْ قضى تحت التعذيب، وشهدنا دون أن نفهم قدر الألم، كيف تعرّفت إليهم عائلاتهم بين الصور الّتي سرّبها العسكريّ السوريّ المنشقّ «قصير».

وفا مصطفى إحدى الناشطات الفاعلات في قضيّة المعتقلين والمختفين قسرًا، إلّا أنّ نشاطها لم يتوقّف عندها، بل سنراها أيضًا تتحدّث إلى وسائل الإعلام، وتكتب في وسائل التواصل الاجتماعيّ عن قضايا تمسّ المسألة السوريّة بجوانبها العديدة. ولعلّ الصورة الأبرز لوفا كانت جلوسها في ساحة «محكمة كوبلنز» في ألمانيا، تحمل صورة أبيها وتحيطها صور كثيرة لمعتقلين ومختفين قسرًا. بالإضافة إلى كلمتها خلال الندوة الّتي عقدتها «الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة»، حول أوضاع حقوق الإنسان في سوريا في آذار (مارس) الماضي، والّتي قالت فيها: "عندما يتكلّم المرء عن أمور كالاعتقال والتعذيب والانتهاكات لعشر سنوات، تصبح الأشياء العاديّة، كالطفولة والحياة قبل الثورة، تصبح صعبة التذكّر؛ لهذا أحمل صورة أبي. أخاف أنّنا موجودون فقط إن تذكّرَنا الآخرون؛ لهذا أخذت صورته برفقة صور 120 معتقلًا آخر، أمام مبنى المحكمة، في أثناء أوّل محاكمة لنظام التعذيب الأسديّ في كوبلنز في ألمانيا. كعائلات لمعتقلين، نشعر بإحباط عميق تجاه فشل الأمم المتّحدة الجماعيّ في التعامل مع تلك الانتهاكات في محكمة العدل الدوليّة".

وبينما أطلقت العائلات ميثاقًا للمطالبة مجدّدًا باتّخاذ إجراءات عاجلة من قِبَل هذه الجمعيّة، إلّا أنّ الحلول الجذريّة تجاه العدالة الحقيقيّة لسوريا تبدو ضبابيّة جدًّا وبعيدة. وفي ظلّ هذا الأفق المشوّش، تبدو وفا متمسّكة بقضايا معتقلي الرأي في دول أخرى في المنطقة العربيّة، ومشتبكة بقضايا التحرّر الإنسانيّ بعامّة.

في هذه المقابلة المطوّلة الّتي نجريها مع وفا مصطفى في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، نتحدّث عن جميع هذه السياقات، بما فيها تجربتها الشخصيّة؛ المحرّك الأكبر ربّما، ومراجعاتها النقديّة لما يبدو لنا مقدّسًا في الثورة.

 

فُسْحَة: في كلمتك أمام «الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة» قلت: "اعتُقلت عندما كنت 21 عامًا؛ لأنّني تجرّأت على الحلم بسوريا عادلة وحرّة. أنا الآن 30 عامًا، أمضيت السنوات العشر الماضية في المطالبة بالعدالة ضدّ نظام الأسد". صفي لنا هذا العقد، على الصعيدين الخاصّ والعامّ من وجهة نظرك.

وفا: أعتقد أنّ الذكرى العاشرة على الثورة السوريّة، كانت بمنزلة فرصة جماعيّة للسوريّين، نبعت ربّما من حاجة في التفكير فيما حدث وما لدينا لنقوله. شخصيًّا، دفعتني الذكرى إلى التفكير في أمور محدّدة ولوجستيّة أفكّر فيها للمرّة الأولى؛ مثل كيف عرفت عن أوّل مظاهرة شاركتُ فيها؟ أركبتُ الحافلة أم التاكسي؟ ليس لديّ أيّ ذاكرة سوى أنّني وصلتُ إلى الجامع الأمويّ. يقودني ذلك إلى حقيقة أنّني لا أعرف شكل حياتي قبل الثورة، ولا أملك ذاكرة عنها سوى تلك الّتي احتجت إلى استرجاعها، والمتعلّقة بأبي. إنّه لأمر غريب أن يكون هاجس المرء مرتبطًا بأمور لوجستيّة، لكنّي أعلم لِمَ أملك هاجس المكان والجغرافيا.

أذكر حين وصلت إلى الجامعة في ألمانيا عام 2016، وسُئِلَ الطلّاب أن يكتبوا إجابة عن سؤال إن كانوا يرون أنفسهم مواطنين عالميّين، الجميع أجابوا بالإيجاب، وبأنّ معنى البيت بالنسبة إليهم يتجاوز الجغرافيا. لم أكتب شيئًا. غادرت الفصل وأنا أفكّر في أنّي لست مواطنة عالميّة، وبأنّ الوطن هو الجغرافيا. حتّى في أوساط العرب والسوريّين تجدين ميلًا إلى وصف الوطن على أنّه الناس وليس الحجارة. أنا متمسّكة بأنّ الوطن عبارة عن مكان وحجارة. في اللحظة الّتي طُرِدْتُ فيها منه، سيكون حتمًا مكانًا جغرافيًّا. هاجس المكان يشمل تفاصيله؛ كالموسيقى الّتي كنت أستمع إليها في طريقي إلى المظاهرة. هل كانت فيروز تغنّي «وطني»؟ لم أعد متأكدة إن كنتُ أتذكّر أم أخترع ذاكرتي. يتكرّر لديّ في الآونة الأخيرة حلم بأنّي أفقد ذاكرتي، ثمّ يتملّكني رعب وأقول لنفسي: كيف سأكمل ما أفعل بعد الآن من أجل أبي؟ لعلّ الأمر بات واضحًا بعد عقد من الزمن؛ أنّني كنت أحارب بذاكرتي. أحارب الاكتئاب بذاكرتي، أحارب الإحباط بذاكرتي. ولو أنّها تبدو حافزًا للألم، لكنّها جزء من تعقيد العلاقة الّتي تربط هذه الأشياء. أنا مسكونة بهذه الأسئلة الّتي تبعد عن أن ترتبط بالسياق العامّ. أنا أعيشها بشكل يوميّ، ويُصَعِّب عليّ ذلك أن أرى الأمور بموضوعيّة من مسافة ما وأقوّمها. أنا غريقة التفاصيل، والحدث بالنسبة إليّ مستمرّ ويُنْبِتُ طبقات إضافيّة. أشعر بأنّي أعيش في برزخ حقيقيّ بين الحياة والموت. ليس لديّ إحساس مطلق بهذا أو بذاك. كأنّي لم أعرف ما الحياة قبل عام 2011. خلال السنوات الأخيرة شعرت بأنّ حياتي مهمّة، وعليها أن تستمرّ في أن تكون كذلك. ذلك بعد أن كنت على حافّة إنهاء حياتي في 2013. تلك الحافّة جعلتني أعيش في هذا البرزخ إلى الآن.

 

فُسْحَة: ربّما لا تختلف الحالة السوريّة عن الفلسطينيّة، في الوصول إلى نقطة زمنيّة نحتاج فيها أفرادًا وجماعة إلى أن نخوض حربًا على ذاكرة تُسْرَق، ولا سيّما إن نُزِعَ أحدنا عن مكانه كما نُزعتِ.

وفا: للقضيّة الفلسطينيّة حضور كبير في عائلتي. عندما خرجت أمّي من سوريا لم تأخذ معها شيئًا سوى مفتاح البيت. ثمّ إنّني نشأت خلال طفولتي الأولى في مخيّم اليرموك، الّذي قرّر أبي العيش فيه. فموضوع الذاكرة، بالنسبة إلينا، يرتبط بحضور فلسطين الحاسم في حياتنا. أذكر مرّة أنّ صديقة قالت لي إنّني أنتظر أبي كما تنتظر الفلسطينيّات أحبابهنّ. شعرت مع هذه الجملة بإنصاف ما. ربّما لا أمارس هذا الانتظار على نحو واعٍ. أعتقد أنّ علاقتي بالذاكرة ترتبط ببيئتي وعلاقة أبي بفلسطين. منحني أبي اسم «وكالة الأنباء الفلسطينيّة – وفا»، من هنا بدأت هذه الرحلة. أذكر كذلك أوّل مظاهرة شاركت فيها حين كنت في العاشرة؛ كانت دعمًا للانتفاضة الفلسطينيّة. استمرّت هذه الرحلة مدّة ستّ سنوات؛ إذ كنّا نخرج كلّ خميس من منطقة مصياف، مستقلّين حافلة إلى الشام؛ لنشارك في تظاهرات داعمة للعراق وفلسطين. حتّى أصبح ذلك روتينًا وجزءًا لا يتجزّأ من حياتي. علاقتي بالذاكرة لم تبدأ مع الثورة، لقد قرّر أبي أن يحملها ويتبنّاها. ولعلّني أقلّده في تعاملي مع الذاكرة. كان في العشرين من عمره حين انضمّ للقتال في الحرب اللبنانيّة عام 1982، ومنحه رفاقه اسم «أبو صامد»... فقد كنت أُجيب، في صغري، حين أُسأل عن المستقبل بأنّي سأصير مراسلة حرب. ذاكرتي هي الدافع اليوميّ الّذي يحثّني على الاستيقاظ. حين أفتح عينيّ أفكّر في الأمر الّذي سأتذكّره اليوم. يوميًّا أكتب عن أبي وعن سوريا، متبنّيةً ذاكرتي وسيلةَ مقاومة. وسوف أسخّر كلّ شيء من أجل أن أحارب فيها. أعمل الآن مع المخرجة وعد الخطيب على فيلم وثائقيّ يحكي قصّتي. أريد لأبي عندما يخرج أن يعرف ما حصل لا أن يشعر بأنّه خسر الكثير. ربّما أعي أهمّيّة أن أقول للناس بأنّ أبي موجود. يرتبط ذلك بالأيّام الّتي تمرّ على غيابه، وأعدّها. هذا العدّ مؤلم جدًّا، ولم يصبح عاديًّا مع مرور نحو ثماني سنوات على غيابه. ذلك هو أحد الأمور الّتي أدركته بعد عقد من الزمن على الثورة؛ كيف يمكن الألم أن يتجدّد بهذه الطريقة. حين سألتني المعالجة الّتي زرتها عن هدفي، قلت إنّي لا أريد أن أهزم الألم، ولا أريد له أن يهزمني. أريد مصالحة وعلاقة مساومة بيني وبينه.

 

وفا مصطفى مع أبيها، علي مصطفى

 

فُسْحَة: ربّما يكون هذا الألم دليلًا على عدم استسلامك، وأملك في أن يعود أبوك.

وفا: ثمّة مَنْ يسألني إن كنت متفائلة بأنّه على قيد الحياة. لا أقول إنّي متفائلة، لكن لديّ أمل. أسحب هذا الأمل بشكل يوميّ. تمرّ أيّام أشعر معها بالإحباط، أستفيق فيها على السؤال والخيبة. لديّ أمل ليس لأنّ الواقع يدفعني إلى امتلاكه، بل لأنّني لا أملك خيارًا آخر. الناشط والصحافيّ أحمد دومة يتحدّث في نصوصه من السجن، بأنّ اليأس بالنسبة إلينا يُعَدّ ترفًا. لديّ نفس الإحساس. أحيانًا أتمنّى لو أستطيع أن أقول إنّي تعبت، ولا جدوى أو تأثير لما أقوم به، وأريد الاستسلام. ثمّة شيء ما في داخلي يقول لي بأنّ أبي حيّ؛ ففي الحالة السوريّة الأمر عبثيّ جدًّا، ثمّة مَنْ اعتقد أهله أنّه مات، وأقيم له بيت عزاء، ثمّ عاد إلى بيته. في سوريا، عليكِ أن تري الميّت بأمّ عينك حتّى تصدّقي أنّه ميت. أعرف أهالي معتقلين لديهم إحساس بأنّ أحبّتهم قضوا، ثمّة مَنْ يقول إنّه لا يملك خيارًا سوى التفكير في أنّ ابن عائلته مات وانتهى الأمر. في سوريا قول مشهور: "أمّ الشهيد بتنام وأمّ المعتقل ما بتنام". الإخفاء تدمير لحياة الشخص وعائلته، ومسألة النجاة مسألة معقّدة. أُسْأَل إن كنت أعتقد أنّي نجوت بخروجي من سوريا. أشعر بأنّي لم أَنْجُ، وسأعيش مع تساؤل دائم إن كنت سأكون موجودة يوم غدٍ. لكن في مقابل هذه الذاكرة الّتي تقاوم الإخفاء، ثمّة شعور يولد مع منصّات التواصل الاجتماعيّ بأنّ الأمر ليس ملكي الشخصيّ، بأنّ أبي ليس لي. عندما كنت على باب «محكمة كوبلنز»، حيث جرت المحاكمة الأولى لجرائم التعذيب في سوريا، وحملت هناك صورة أبي بين صور المعتقلين والمختفين قسرًا، لم أستطع أن أميّز أبي بين بقيّة الصور. كانت لحظة قاسية أن يكون أبي مجرّد صورة بعيدة.

 

فُسْحَة: ما نتحدّث فيه حتّى الآن هو تجارب وقضايا حملتموها معكم من سوريا. بودّي أن أسألك عن قضايا قد تولد في منفاكم. كيف ترين إلى حياة السوريّين في ألمانيا، ولا سيّما الشباب منهم؟

وفا: لديّ هنا أصدقاء، منهم مَنْ كانوا في السادسة عشرة من العمر حين انطلقت الثورة. أحيانًا يرون أنّنا «راديكاليّون» بلا منطق، ومتمسّكون بطريقة غير مفهومة بالقضيّة، ولا يفهمون لِمَ لا نستطيع أن نكون براغماتيّين. حديثًا، صرت أرى أنّ ذلك يعود إلى مَنْ عاش التجربة على جلده ومَنْ لم يعشها؛ فذلك يغيّر علاقتك بالأشياء. قبل فترة تناقشت مع صديقة قالت لي: الثورة الّتي لم أشارك فيها ولم أرَ منها غير الحرب واللجوء، لا أفهم لِمَ يتمسّك بها الناس. أنا أتفهّم ذلك تمامًا. لم أفكّر كذلك حين قَدِمْتُ إلى ألمانيا. أنا شاركت في الثورة بإرادتي وأتحمّل مسؤوليّة خياراتي. لكنّي أفكّر في أولئك الّذين لم يشاركوا فيها ويتحمّلون خيارات الآخرين. أشعر بالعجز تجاه هؤلاء الشباب؛ يرون أنّ سلوكنا أنانيّ، وأنا أحاول أن أفهم الصورة من وجهة نظرهم. ذلك ليس بالمهمّة السهلة؛ فالفجوة موجودة وقد تتعاظم في المستقبل. لا أقول عنه أنّه جيل، بل سلوك لدى فئة معيّنة من الناس تجاه الثورة. فما أعيشه أنا ليس مرتبطًا بالزمن، وسأعيشه بهذه الطريقة ما حييت. في ذلك صعوبة كبيرة لأنّه يعني انفصالي عن الواقع. أنا درست في ألمانيا لكنّي أعيش سياقًا ليس موجودًا سوى عندي. لا أعيش في سوريا ولا في ألمانيا، إنّما في مكان بينهما. وصلت إلى هنا قبل خمس سنوات، إلّا أنّي أجهل حتّى اللحظة ماذا عليّ أن أفعل حتّى أحصل على الجنسيّة. لديّ على الدوام شعور بأنّي سوف أعود إلى سوريا، لكنّ ذلك لا يعني أنّي لست مرتبطة بقضايا الناس هنا كالترحيل.

 

وفا مصطفى وشقيقتها مع أبيهما

 

فُسْحَة: وكنتِ شاركتِ في التظاهرات الّتي أجريت تصدّيًا لقانون ترحيل اللاجئين «الخطرين». كيف ترين إلى القانون، ولا سيّما في أكثر الدول الّتي استقبلت لاجئين سوريّين في أوروبّا؟ وما أثره في الناس؟

وفا: القانون أعقد من أن تتمّ المباشرة فيه؛ وعليه فلا يمكن لمس تأثيره بين الناس. ثمّة عقبات كثيرة تحول دون تطبيقه بسهولة، منها العلاقات الدبلوماسيّة بين ألمانيا وسوريا، فلا بدّ من أن يُنَفَّذ الترحيل عبر دولة وسيطة. ويقول الألمان إنّهم سيدرسون كلّ حالة بشكل منفرد؛ يدرسون خطر الشخص على المجتمع الألمانيّ وإمكانات تعرّض الشخص للاعتقال أو القتل في سوريا. هم يؤكّدون أنّهم لن يُرَحِّلوا أيّ شخص معرّض للخطر في سوريا. لكن تكمن المشكلة في أنّ الناس في سوريا لا يُعْتَقَلون لأسباب عينيّة، وقد يُعْتَقَلون دونما سبب. لا شيء يؤكّد حتّى عدم تعرّض مؤيّدي النظام للخطر. سوريا بلد غير قابل للعيش، دولة فاشلة، وإرسال أيّ أحد إليها يعني إرساله إلى الجحيم. يشمل القرار مرتكبي الانتهاكات والمجرمين، وهي خانة فضفاضة جدًّا. نحن نقول إنّ ترحيلهم يوازي الحكم عليهم بالإعدام؛ الإعدام الّذي لا يتوافق مع السياسات الألمانيّة. أحد أسباب هذا القرار كان حادثة القتل في مدينة دريزدن الّتي قيل فيها إنّ القاتل له علاقة بـ «النصرة». استُغِلّت الحادثة إعلاميًّا، وجرى هذا التغيير على القانون الّذي طُرِحَ قبل فترة طويلة، لكن لم يُصَوَّت عليه إلّا بعد الحشد الإعلاميّ الّذي حصل. حتّى مَنْ لم يُرد التصويت على القرار وُجِدَ تحت ضغط جماهيريّ، يسأل: ماذا ستفعلون بمَنْ يهدّد أمن المجتمع الألمانيّ؟ صحيح أنّ القضيّة ستستغرق بعض الوقت إلى حين تنفيذها لكنّي أراها قادمة، وقد يتطوّر الأمر ليشمل أولئك الّذين لا إقامات لديهم، وقد يتأزّم أكثر من ذلك فيشمل مَنْ لم يندمج بالمجتمع الألمانيّ. ذلك يرتبط بشكل وثيق بمسألة الحرّيّة. بعد كلّ ما مررنا به، كيف يمكننا أن نقبل ذلك؟ كيف لا تجعلنا التجربة نسأل ما الحرّيّة؟ وهل تتجزّأ؟ أأريدها لي ولمَنْ يشبهني فحسب؟ أم أريدها أن تشمل مؤيّدي النظام و«الشبّيحة» كذلك؟ ثمّة مَنِ اتّهمني بأنّي أمارس «التطهّر»؛ بقولي إنّي لا أريد أحدًا أن يتعذّب.

حاملةً صورة أبي، وقف أمامي في «محكمة كوبلنز» ضابط الاستخبارات السوريّة أنور رسلان، كان باستطاعتي قول ما أريد. لكنّها كانت لحظة حقيقة. لم يكن بالإمكان أن أكذب على نفسي وألقي خطبة ثوريّة. سألت نفسي إن كنت أقبل بأن يتعذّب مثلما أتعذّب أنا. وما الّذي يجعلني مختلفة عنه. إن كنت مثله، فما الّذي أكون قد قطفته خلال العقد الماضي؟ التجربة الّتي مررت بها خلقت لديّ حالة تعاطف، ثمّة مَنْ يراها غير مفهومة أبدًا. ليس لديّ إحساس بالتشفّي. ربّما ولّد غياب أبي هذا التعاطف مع الآخرين. لكنّي أفهم أن يعدم قهر الناس هذا الشعور. أجدني أفكّر أيضًا في معتقلي مصر مثلًا. يسألني الناس لِمَ أُقْحِمُ نفسي بهذه القضايا. فجأة، وجدت اهتمامي بقضايا المعتقلين في كلّ الوطن العربيّ؛ ذلك لأنّي شخص أُنْشِئَ على فكرة التضامن. أوّل مظاهرة شاركت فيها كانت تضامنًا مع أناس لا أعرفهم. عليّ أن أرتبط بنضال أوسع من السياق السوريّ حتّى أنجو. ثمّة نقاش في السياق السوريّ حول سؤال إن هُزِمَت الثورة أم لا. وثمّة مَنْ يقول لي إنّ عليّ الاعتراف بالهزيمة. لكن إن فعلت فماذا سيعني وجودي؟ الارتباط بقضايا تحرّريّة أخرى تعني أنّي، وإن هُزِمْت؛ فالنضال الإنسانيّ مستمرّ في مكان آخر. ربّما استُنْزِفْت في قضيّة الترحيل، ليس لأنّني متعاطفة مع المجرمين، لكنّي ضدّ مبدأ السجن بالمطلق. أفهم أنّ العقاب هو هدفه، لكنّي أفهم أن يعمل على إعادة تأهيل الناس. وإرسال الناس إلى سجن كبير يتمّ التعامل معه كمكبّ بشريّ كسوريا، هو بمنزلة الحكم عليهم بالإعدام. لا أقول إنّ على المجرم الإفلات من العقاب، لكن أقول إنّ العقاب هو جزئيّة فقط.

 

فُسْحَة: حسنًا، في أمر المحاكمة الّتي خرج منها إياد الغريب، العنصر في الاستخبارات السوريّة، بحكم في السجن لمدّة أربع سنوات ونصف، بتهمة التواطؤ في جرائم ضدّ الإنسانيّة؛ ماذا تعني لك؟ وهل أعطتك إشارة أمل في محاكمة المسؤولين في النظام، وعلى رأسهم بشّار الأسد؟

وفا: هذه المحاكمة بدأت قبل موضوع قرار الترحيل، كنت متفائلة مع بدايتها. لم يكن بالنسبة إليّ من المنطقيّ أن ترحّل ألمانيا الناس وأن تُحاكِم، نفس الدولة، أشخاصًا ليسوا مواطنين فيها؛ بسبب جرائم ضدّ الإنسانيّة. طبعًا من المعروف أنّ ثمّة فصلًا بين السلطات في ألمانيا، لكنّ هذا التناقض لا يبرّره فصل السلطات. في رأيي، قرار الترحيل الّذي صدر بعد أن بدأت المحاكمات إشارة على أنّ الصورة الّتي منحتنا الأمل ليست حقيقيّة. في الحقيقة، نظرتي الشخصيّة تجاه المحاكمات تغيّرت منذ بدايتها حتّى الآن. كنت على أمل أن تكون البداية في ظلّ خيارات وحلول أخرى، وغياب أيّ أفق في «محكمة الجنايات الدوليّة» أو محاسبة للأسد. في ظلّ هذه المعطيات، رأيت أنّ المحاكمة خطوة أولى باتّجاه العدالة. لكنّي اليوم لا أعرف بأيّ اتّجاه تسير. شهدنا أمورًا جعلتنا نشكّ في المحاكمات؛ فأنا شخصيًّا لديّ شعور بأنّ المحاكمات ما هي إلّا حجّة لفشل المجتمع الدوليّ في إيجاد حلّ حقيقيّ، وفي التعامل مع روسيا. الحلّ البديل هو المحاسبة، لكنّ هؤلاء مضطرّون إلى فعل شيء أمام شعوبهم؛ كي يقولوا ها نحن نحاول. حين حضرت جلسة الأمم المتّحدة، تحدّث الجميع عن المحاكمات كسبيل باتّجاه الحلّ، لكنّ هذا بالنسبة إليّ يبدو مخيفًا؛ أن تُسْتَخْدَم وتُقَدِّم «الحلَّ» لسوريا. الاحتفالات الّتي تلت المحاكمات توحي بهذا الشيء. وكأنّ الظلم في سوريا انتهى وحان وقت المحاسبة. قلتُ على باب المحكمة إنّي أتيت لأؤكّد أنّ ما يحدث في الداخل عظيم وجيّد، لكنّ العدالة لسوريا تبدأ بإطلاق سراح جميع المعتقلين وإنهاء الاعتقال، ثمّ محاسبة الجناة. هل مطلوب منّي أن أنتظر أبي حتّى يموت تحت التعذيب، ثمّ أقف سنين أطالب العدالة من محكمة أوروبّيّة؟ يدور الحديث عن سوريا كما لو أنّ ما حدث كان ماضيًا، أمّا الحكم على إياد الغريب، فكنت حزينة لأنّي لا أعرف ما شعوري حياله. منطقيًّا؛ أثبتت مساعدته في ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانيّة. في المقابل، لم يرتكب أبي أيّ جرم، وها هو مختفٍ منذ ثماني سنوات. أنا حزينة على عائلة إياد. صدقًا هذا ما شعرت به. جميعنا يعرف أنّ ما اقترفه إياد لا يُقارَن بما اقترفه آخرون، لكن في نهاية المطاف الجريمة هي جريمة. ربّما أُفْرِغ الضخّ الإعلاميّ في قضيّته. إلّا أنّ المشهد حزين جدًّا. عرفت عائلته في تركيا عام 2013. لم يكن هو موجودًا، تعرّفت إلى زوجته وأولاده. كان يريد أن ينشقّ منذ بداية الثورة لكنّه خاف على عائلته. كان يعمل على تسريب الأخبار للجيش الحرّ. ذهب ليقدّم شهادته في قضيّة أنور رسلان؛ فانفجرت قضيّته بسبب شهادته. جعلتني المحكمة أتعاطف مع عائلته وأفكّر في الظلم؛ كيف يمكن الناس أن يمارسوه لسنين طويلة؟ تساءلت إن كنت أسهمت بشكل ما في ظلمه. لقد أُجْبِرَ على اعتقال أشخاص، لكنّه في النهاية ارتكب جريمة، وتطوّع في الأمن منذ عام 1996 لأسباب مادّيّة. لا أتفهّم هذه الجزئيّة في الأقلّ. المحكمة سؤال أخلاقيّ كبير. ما العدالة؟ ثمّة خيط رفيع بين الظلم والعدالة. عجيب كيف ترى الناس حكمًا واحدًا على أنّه ظالم وآخرون يرونه عادلًا. أنا مندهشة من الناس الّذين يملكون مفاهيم واضحة تجاه مفاهيم كالحرّيّة والعدالة. هذه المفاهيم ليست ثابتة وليست واضحة بالنسبة إليّ. أنا لا أطالب بعدالة وكرامة، بل بحقّي في أن أتعلّم هذه الأفكار وأمارسها. في السابق، كان مفهومي عن العدالة واضحًا، أمّا الآن فأبدو أقلّ ثقة فيما أريده لسوريا. في هذه اللحظة، تبدو الأمور أكثر نسبيّة وذاتيّة، ولا أدري إن كان ثمّة عدالة بإمكانها أن تشمل جميع السوريّين. هذا النوع من المفاهيم المطلقة في حاجة إلى واقع أكثر استقرارًا، وقراءة الواقع السوريّ اليوم أمر غير ممكن، أشعر بأنّ المُسْتفاد من هذه السنوات العشر أنّني وصلت إلى مرحلة أستطيع فيها مساءلة مفاهيمي ومطالبي، وهذا أمر ليس سهلًا. تجربتنا مع المعارضة التقليديّة ومع تجارب سابقة، جعلتنا نفهم أنّ التمسّك الأعمى بمفاهيمنا وشعاراتنا مسألة إشكاليّة، وأؤمن بأنّي، حين أسأل نفسي ما العدالة، أعطيها بذلك مساحة للتفكير والمراجعة. أطالب بحقّي في ممارسة العدالة رغم عدم إدراكي لماهيّتها. من محاسن هذه المحاكمة أنّها تفتح أمام السوريّين باب الأسئلة. كثيرون سألوا فور صدور الحكم: هل هذا ما أردناه؟ أعرف تمامًا أنّي أطالب بمحاسبة كلّ مَنِ ارتكب جريمة، لكنّ الجانب الآخر للمعادلة يعود إلى خوفي من أن أشبه أعدائي في تطرّفي. هل أبالغ في تعاطفي؟ ولماذا عساني أبالغ؟ خلال السنوات العشر الأخيرة، هدمت كلّ ما أعرفه من بِنًى وأسس معرفيّة وأخلاقيّة، وما زلت أهدمها، أبني غيرها ثمّ أهدمها أحيانًا، أراجع معتقداتي، ما يبدو في كثير من الأحيان تخبّطًا، لكنّه حقيقة.

 


أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.