«فوضى»... ضجيج هائل من أثر الهزيمة والارتباك

ممثّلون في مسلسل «فوضى» الإسرائيليّ

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

هل يسعى الإسرائيليّ إلى خسارة امتيازاته؟

حريّ بنا نحن الفلسطينيّين ألّا نتوقّع من الإسرائيليّ أن يسعى، في أيّ محفل كان، إلى تقديمنا بالشكل الّذي نودّ، وإنّما كما يريده هو أو كما يرانا. بل إنّ خير صورة لنا هي ما نحن عليه فعليًّا، وما نعكسه نحن على أنفسنا، ومن ثَمّ على الآخرين، ومن هنا تأتي أهمّيّة تمسّكنا بقوّة الحقّ، وبمصداقيّة الفعل، وبأخلاقيّات كفاحنا وسلوكنا؛ أي أنّ جوهر الصورة منوط بنا، كلّما تراجعنا سَهُل تشويهها، وتعود ناصعةً مع نهضتنا.

إنّ دولة احتلال - كأيّ استعمار - لا تُبْقي مجالًا للتوقّعات بوجود أيّ نوع من النزاهة في هكذا موضوع، أو المعايير الأخلاقيّة، أو منحنا وزنًا أخلاقيًّا؛ فالواقع الاستعماريّ، وكما هو الأمر مع أيّ منظومة حُكْم، يخلق نُخَبَه الثقافيّة والفنّيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والأكاديميّة وغيرها، ويمنح المجموعة المنتمية إليه امتيازات حقيقيّة تخسرها في حال انحسار هذا الواقع؛ ولذلك تبني هذه النخب هالتها الأخلاقيّة الليبراليّة تجاه ذاتها، وصورتها المهيمنة الضابطة تجاه ضحايا الاستعمار.

 في سياق الامتيازات المتخيّلة ثمّة "التفوّق الأخلاقيّ" على ضحايا الاستعمار، ليغدو الأخيرون ضحايا أصحاب هذه الامتيازات المتمسّكين بتفوّقهم، ما يضمن معادلات القوّة غير المتكافئة والسيطرة الناتجة عنها...

من ضمن الامتيازات، ثمّة المادّيّة والمعنويّة والثقافيّة، وكذلك امتيازات متخيّلة. في سياق الامتيازات المتخيّلة ثمّة "التفوّق الأخلاقيّ" على ضحايا الاستعمار، ليغدو الأخيرون ضحايا أصحاب هذه الامتيازات المتمسّكين بتفوّقهم، ما يضمن معادلات القوّة غير المتكافئة والسيطرة الناتجة عنها. وكثيرًا ما يحدث أن يذوّت الواقعون تحت الاستعمار تفوّق أصحابه بشكل غير مُدْرَك، وهذا نموذج هيمنة حذّر منه فرانز فانون وباولو فريري وآخرون.

 حين نتحدّث عن استعمار استيطانيّ، فإنّ نهج التغييب لأهل البلاد، سياسيًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا، يغدو من طبيعة المنظومة بمفهومها الشامل. بناءً على ذلك، فإنّ ما يُطْلَق عليه "المفاهيم ما بعد الصهيونيّة"، القائلة بأنّ المشروع الصهيونيّ قد حقّق أهدافه، وأنّ عليه بالإمكان، ومن باب ثقة المنتصر بالنفس، عليه كَشْف الجوانب المظلمة في تاريخه وممارساته، أو الحديث عمّا ارتكبه تجاه أهل البلاد الّذين استعمرهم. إنّه توجّه نقديّ للمشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ الإحلاليّ، بعد أن راكم إنجازات غير مسبوقة، وبعد أن حقّق أصحاب هذا النهج الامتيازات الّتي نالها كلّ إسرائيليّ على حساب الفلسطينيّ، ضمن ما يُسَمّى الصالح العامّ اليهوديّ، ولن يتنازلوا عنها؛ ولذلك فإنّ توجّهي نقديّ لتلك المواقف والأصوات العربيّة الفلسطينيّة، الّتي تقبل أن تمنح هؤلاء قيمة أخلاقيّة إضافيّة، في حين أنّ ما يحصل هو كشْف المذكورين مسبّبات تفوّقهم. كلّ هذا لا يحول دون رفض أوساط نخبويّة محدودة في المجموعة المسيطرة الامتيازات الّتي توفّرها منظومتهم الحاكمة.

القراءة الإسرائيليّة لمسلسل «فوضى» مغايرة لقراءتنا، ويُسأل السؤال: لماذا؟ حسب الإسرائيليّ فإنّ «فوضى» مسلسل نقديّ سعى إلى تبيان تعقيدات الوضع، وإلى تأكيد أنّه لا يوجد إيجابيّ وسلبيّ أو أخلاقيّ وغير أخلاقيّ، بل إنّ تعقيدات المَنْحَيَين تنعكس في الطرفين الإسرائيليّ والفلسطينيّ، في واقع سيطرة من ناحية ورفض التسليم بها من ناحية أخرى، وليس أمام الفرد سوى أن يكون جزءًا من أحد كُلَّيْن.

 

منسوب الأثر وصخب النقاش

تميّز النقاش الفلسطينيّ الّذي أُثير حول مسلسل «فوضى» الإسرائيليّ بكثير الصخب، وأعتقد أنّ مدى هذا الصخب فاق بشكل ملحوظ حجم الأثر الناتج عن المسلسل، وانطباعي وجود مغالاة في تصوير الضرر ليعلو منسوب الصخب. لقد استحوذ النقاش على فائض من الحدّة كما لو كان أثر المسلسل مخيفًا وحاسمًا.

إنّ العلاقة بين سعة النقاش وصخبه وبين أثر المسلسل، بحاجة إلى التوقّف عندها، والتساؤل: لماذا يحدث هذا؟ وكيف؟ وعلى ذاك؛ فقد اعتمدت نموذجين لمعاينة الأثر:

 

أ. نموذج صناعة وعي فلسطينيّي أراضي 48

ما حدث مع فلسطينيّي أراضي 48 نموذج مهمّ في معاينة مدى أثر منظومة الضبط الاستعماريّ، والهندسة الذهنيّة، والمخطّطات الإسرائيليّة لإعادة إنتاج "العربيّ الإسرائيليّ" المهزوم، الفاقد الانتماء والكيان، وذلك في سياق علاقات القوّة، بين مجموعة مستعمِرة تقوم بعمليّة بناء أمّة، ولديها جهاز دولة ناشئة حديثة، وبين مجموعة تحت استعمارها متمحورة في بقائها على الأرض، وحصولها على مواطنة في وطنها المسلوب من شعبها المطرود والمهجَّر، وهي الشخصيّة الّتي كُثِّفَتْ في رواية «المتشائل» (1974) لإميل حبيبي.

وقد خضع هذا الجمهور، وعلى امتداد أجياله، لجهاز التعليم الإسرائيليّ ومنهاجه ورقابته الأمنيّة، وهو منهاج المستعمِر، إلى درجة أنّنا، وحين نتحدّث عن «وحدة المستعربين»، نجدها أقلّ وطأة منه كما يبيّن جوهره؛ فقد عاش جهاز الـ «شين بيت» في أذهان الناس...

هذه المجموعة من الشعب الفلسطينيّ، الّتي وجدت نفسها بين ليلة وضحاها حطام شعب، وعاشت عقدين تقريبًا تحت طائلة جهاز الحكم العسكريّ، وتعاملت إسرائيل مع بقائها في وطنها بصفته خطأً يجدر تصحيحه في أوّل فرصة سانحة، وعاشت تحت رقابة الاستخبارات الشاملة على امتداد اثنين وسبعين عامًا، ونظام الضبط والمنع والترهيب السياسيّ والذهنيّ، وكلّ أصناف الهندسة الذهنيّة وإعادة بناء الوعي المهزوم والخاضع.

وقد خضع هذا الجمهور، وعلى امتداد أجياله، لجهاز التعليم الإسرائيليّ ومنهاجه ورقابته الأمنيّة، وهو منهاج المستعمِر، إلى درجة أنّنا، وحين نتحدّث عن «وحدة المستعربين»، نجدها أقلّ وطأة منه كما يبيّن جوهره؛ فقد عاش جهاز الـ «شين بيت» في أذهان الناس.

إنّه جمهور انكشف بالكامل أمام سطوة الإعلام الإسرائيليّ، وتحديدًا الإذاعة العربيّة الموجّهة إليه وإلى الشعوب العربيّة وأنظمتها أيضًا؛ بهدف تذويت روح الهزيمة وترسيخها، ولفرض إسرائيل أمرًا واقعًا فوق إرادة العرب، وطمس الثقافة، ومراقبة ما يسمعه العرب من برامج، وخاصّةً التحقيق مع مَنْ يستمع إلى خطابات جمال عبد الناصر، حين كان المذياع من الطراز القديم، يلتئم حوله الناس المجتمعون عند المحظوظين بجهاز كهذا، الّذي كان نادر المنال.

رغم كلّ ما ذُكر، لم تنجح إسرائيل في خلق "العربيّ الإسرائيليّ" وهذه حقيقة، بل سار الناس في الطريق الكفاحيّ الوطنيّ، الّذي تعزّز وراكم الإنجازات باستمرار. بل إنّ مسيرة الكفاح بلورت مناعة وطنيّة، وكرامة وطنيّة، وثقة بالنفس الجماعيّة.

ولو خضنا في موضوع أثر المسلسل الإسرائيليّ في العالم العربيّ والتطبيع، والمُحاجَجَة بأنّ مسلسل «فوضى» قد يسهم في التطبيع، يكفي أن ننظر إلى الشعبين المصريّ والأردنيّ؛ إذ يقيم نظاماهما الحاكمان اتّفاقات سلام مع إسرائيل وعلاقات دبلوماسيّة كاملة منذ عقود، إلّا أنّ الشعب المصريّ - كما هو الأردنيّ - لم يتأثّر لا بالتطبيع بشكل عامّ، ولا بالتطبيع الثقافيّ على وجه الخصوص. ولا أرى أنّ هذا المسلسل يمكن أن يؤثّر في تفكيرهم أو مفاهيمهم، بل لو استخدمنا مفهوم "روح الشعوب"، فإنّ روح الشعبين المذكورَين كما كلّ الشعب العربيّ مناهضة للتطبيع.

ب. «رامبو» وفيتنام

الجانب الآخر الّذي يمكن الاستفادة منه في معاينة الأثر، كلّ مفهوم أفلام ومسلسلات «رامبو»، البطل الأميركيّ الّذي لا يمكن أن يُقْهَر، كان "يحصد" الفيتناميّين ويلقي بهم قتلى، وكان يجد العملاء من بينهم، وكذلك المرأة الفيتناميّة الّتي تعبده وتشتهيه، إلى درجة أنّ كلّ ما ورد في مشاهد «فوضى» ورد بصورة أو بأخرى في حالة «رامبو». أفلام «رامبو» كان فيها تكثيف للإثارة والتفاعل والتماثل معه، فهو البطل، في حين أنّ كلّ مَنْ يفكّر فيه يرى به مجرم حرب وقاتلًا ومرتكب جرائم إبادة.

أعتقد أنّ نموذج «رامبو» لم يؤثر في الشعب الفيتناميّ، ولا في الشعوب الأخرى، ولا في حركة التضامن العالميّ مع فيتنام، ولا في الحركة لمناهضة الحرب الإجراميّة الأميركيّة في فيتنام، ولا أرى في مسلسل «فوضى» أكثر أثرًا.

 

تسعى أفلام «رامبو» إلى إظهار أخلاقيّاته تجاه مَنْ أرسلوه إلى هذه الحرب القذرة، وليس تجاه الضحايا الفيتناميّين الّذين لا يعيرهم شأنًا، وهم مجرّد أشخاص لا أسماء لهم ولا قصصًا. بينما يعير «فوضى» الفلسطينيّين شأنًا، لكن من باب أنّه معيار لتبيان أخلاقيّات الجنديّ المحتلّ على الضحايا "غير الأخلاقيّين" و"العملاء" المحتملين.

أعتقد أنّ نموذج «رامبو» لم يؤثر في الشعب الفيتناميّ، ولا في الشعوب الأخرى، ولا في حركة التضامن العالميّ مع فيتنام، ولا في الحركة لمناهضة الحرب الإجراميّة الأميركيّة في فيتنام، ولا أرى في مسلسل «فوضى» أكثر أثرًا.

من المتوقّع أن يستسيغ أنصار إسرائيل في العالم «فوضى»، بينما ينفر منه أنصار الشعب الفلسطينيّ وكلّ ضحايا الاستعمار والتمييز والعنصريّة.

 

هل نحن بصدد غزو ثقافيّ؟

النقاش حول المسلسل مهمّ أيضًا، من باب التنبيه إلى ضرورة الحفاظ على عنصر المناعة الفلسطينيّة والعربيّة، في مواجهة الرواية الإسرائيليّة المتعدّدة الأوجه والمضامين. حتّى لو كان مصدرها أوساطًا تعتبر نفسها نزيهة ونقديّة داخل المجتمع الإسرائيليّ، وتسعى حسب مفاهيمها إلى إعطاء الجانب الفلسطينيّ "صورته الحقيقيّة"، لكنّها أخفقت؛ فالحيرات الأخلاقيّة في المسلسل لم تكن في التعامل مع الفلسطينيّ، إنّما في تعامل المحتلّ مع ذاته؛ ولذلك فإنّ عنف بطل المسلسل ‘دورون‘ تجاه زملائه وزميلاته، لا يعني ضحايا الاحتلال بشيء وليس شأنهم، فليس انشغال الواقعين تحت الاحتلال ودولته هو ما إذا كان المستعرب أخلاقيًّا أو غير أخلاقيّ، بل ثمّة حقيقة مرّة، وهي أنّ المحتلّ "غير الأخلاقيّ" أفضل من المحتلّ "الأخلاقيّ"، لو وُجِدَت هكذا مصطلحات؛ إذ إنّ "الأخلاقيّات" تعود إلى ذهنيّة الإبقاء على الاحتلال وعلى المشروع الاستعماريّ، والصنف الأوّل المذكور لا يدع مجالًا للوهم لدى الفلسطينيّ أو الفلسطينيّة.

الغزو الثقافيّ الحقيقيّ ليس في مسلسل «فوضى»، وإجمالًا ليس في المسلسلات والمشاريع الّتي فيها صخب وعنف وإثارة، بل الخشية أكثر هي من "المياه الساكنة" الّتي تتحدّث مثلًا عن علاقة بين الأديان والتعايش، والعلاقة بين العرب واليهود ولجان الحوار...

الغزو الثقافيّ الحقيقيّ ليس في مسلسل «فوضى»، وإجمالًا ليس في المسلسلات والمشاريع الّتي فيها صخب وعنف وإثارة، بل الخشية أكثر هي من "المياه الساكنة" الّتي تتحدّث مثلًا عن علاقة بين الأديان والتعايش، والعلاقة بين العرب واليهود ولجان الحوار، بين الواقِعين تحت الاحتلال والمحتلّين بتمويل صهيونيّ أو مساند للتطبيع؛ فتلك تتغلغل أكثر في النفس العربيّة والفلسطينيّة، وفيها مخاطر أكبر، حتّى لو قرّر البعض في عالمنا العربيّ أنّه لا يلتقي بالإسرائيليّين، فقد تنطلي عليه بأن يلتقي ويمدّ الجسور إلى وكلاء إسرائيل، أي ناشطين في الحركة الصهيونيّة العالميّة أو مساندين لها؛ فما يقوم به «مجلس التفاهم بين الأديان» في دول الخليج، وهو مجلس يقف في رئاسته صهيونيّ أميركيّ، أكثر أثرًا من المسلسل، حيث الناس بحسّها الأساسيّ الطبيعيّ العفويّ يفهمون أنّ فيه تشويهًا لصورة الفلسطينيّ، ولا تفتّش عن مقصد القيّمين عليه.

 

سؤال التطبيع الثقافيّ

أكثر ما أثار النقاش، وأدّى إلى ارتفاع منسوب صخبه وأحيانًا شَخْصَنَتِه، مشاركة فنّانين وفنّانات من أراضي 48، وهم جديرون من حيث الأداء والمستويين الفنّيّ والشخصيّ.

لست شخصيًّا من أنصار مشاركة فلسطينيّة في هكذا مسلسل، وكنت أتمنّى لو لم يشارك أيّ منهم. في الوقت ذاته، من الظلم الصارخ السعي إلى النيل من هؤلاء، كما أنّ سهولة استخدام التخوين في لغة الفيسبوك وثقافته خطيرة جدًّا؛ لأنّها تشكّل محكمة ميدانيّة، سواء على صفحات التواصل الاجتماعيّ أو على الأرض، وتشكّل أيضًا خطرًا على مجمل النسيج الاجتماعيّ، وهي تمسّ بنا مجتمَعًا أكثر من «فوضى».

النقد ضرورة، وهو شرعيّ جدًّا وصحّيّ، ودور النقد أن يصبو إلى التغيير أو التقويم لدى الطرف الّذي ننتقده، ومن وجهة نظر المنتقد أو المنتقدة. ثمّ إنّ دور النقد السعي إلى توسيع مساحات الحوار وثقافة الحوار داخل مجتمعنا الفلسطينيّ والعربيّ؛ فليس من غير الواقعيّ والمحتمل أن نكون في اليوم التالي مع مَنْ ألغيناهم أو دمغناهم بالتطبيع والتخوين، في مظاهرة ضدّ الاحتلال وهدم البيوت، أو دفاعًا عن العراقيب أو ضدّ الجريمة المجتمعيّة، أو جريمة قتل مصطفى يونس وإياد الحلّاق.

النقاش الأساسيّ حول المسّ المعنويّ بالناتج عن مشاركة الفنّانين الفلسطينيّين، في سياق الرواية الإسرائيليّة، ويبقى في حدود المعنويّ. وحين يتحوّل النقاش إلى مسّ شخصيّ بالأفراد، ينتهي النقد ويعلو منسوب الضوضاء على حساب الجوهر والمضمون، ويصبح غبار المعركة أكثر أهمّيّة من المعركة الّتي ولّدته. ثمّ إنّه من الإشكاليّة إدراج مشاركة الفنّانين الفلسطينيّين تحت مسمَّيات الغزو الثقافيّ.

تجدر الإشادة بالفنّانات والفنّانين الكثر، الّذين رفضوا المشاركة في المسلسل (...) لكنّ مسألة عدم مشاركتهم ورفض عدد منهم المشاركة رغم الإغراءات المادّيّة، غابت عن مشهد الصخب الافتراضيّ الّذي غطّى واجهات وسائل الاتّصال الاجتماعيّ

في هذا السياق، تجدر الإشادة بالفنّانات والفنّانين الكثر، الّذين رفضوا المشاركة في المسلسل، وهم من أبرز الممثّلات والممثّلين ومن أكثرهم جدارة؛ لكنّ مسألة عدم مشاركتهم ورفض عدد منهم المشاركة رغم الإغراءات المادّيّة، غابت عن مشهد الصخب الافتراضيّ الّذي غطّى واجهات وسائل الاتّصال الاجتماعيّ، وعن ردود الفعل على معضلة الفنّان الفلسطينيّ في أراضي 48.

ثمّة جانب آخر في هذا السياق، وهو تعامل بعض النخب الثقافيّة في الوطن العربيّ مع هذه المشاركة من باب التطبيع. وللحقيقة، فإنّ انغلاق اتّحادات الفنّانين العرب أمام فلسطينيّي أراضي 48 ليس موقفًا فعّالًا ضدّ التطبيع، بل فيه إشكاليّة، لأنّه يضع الفنّانين والفنّانات في أراضي 48 في زاوية لا مجال فيها للخيارات، ويسعى إلى حرمانهم من امتدادهم العربيّ. في المقابل، فإنّ هذا الجزء من الشعب الفلسطينيّ بنُخَبه الثقافيّة على تنوّعها، لا مبرّر له بأن يقف موقف المتفرّج واللامبالاة، تجاه قمع دولة البحرين مثلًا لندوة على وسائل التواصل الاجتماعيّ لمناهضة التطبيع، وتعريض منظّميها للملاحقة.

الحالة الفلسطينيّة ليست أفضل حالًا، بل أقلّ تبريرًا من الحالة العربيّة، والحديث عن ضرورة انفتاح «اتّحاد الفنّانين الفلسطينيّين» لعضويّة الفنّانين والفنّانات من أراضي 48، وعلى أساس ميثاقه الأخلاقيّ وثوابته. ومثل هذه الأطر الفلسطينيّة مدخل وبوّابة إلى المدى العربيّ.

إنّ فتح المجال أمام الفنّانين والفنّانات الفلسطينيّين من أراضي 48، لعضويّة الاتّحادات العربيّة والفلسطينيّة، هو النموذج الأقوى ضدّ التطبيع، وليس العكس.

 

الوطن العربيّ الواسع ولعبة القوّة

من الإشكاليّة إلقاء وزر التطبيع على مَنْ هم تحت الاحتلال والاستعمار، كما أنّ الإلقاء بتبعات عمق الخضوع العربيّ، والهزيمة العربيّة، والهزيمة الفلسطينيّة الحاليّة، على سلوك الفنّانين الفلسطينيّين في أراضي 48 المحاصرة، لهو ظلم كبير، وهذا لا يعفي هذا الجمهور من المسؤوليّة تجاه الشعوب العربيّة.

حين تكون الحالة العربيّة مهزومة يصبح الضجيج على المسلسل هائلًا، وإذا كانت الحالة الفلسطينيّة مشتّتة ومرتبكة، يكبر حجم ردود الفعل والصدى وقساوة اللهجة من هكذا مسلسل...

مناهضة التطبيع هي حركة العالم العربيّ. أحيانًا يجري الخلط بين ما يقوم به فنّان وبين التطبيع ودمغ النضال الفلسطينيّ، أو تحميله ما لا يستطيع أن يحمل.

حين تكون الحالة العربيّة مهزومة يصبح الضجيج على المسلسل هائلًا، وإذا كانت الحالة الفلسطينيّة مشتّتة ومرتبكة، يكبر حجم ردود الفعل والصدى وقساوة اللهجة من هكذا مسلسل. وإذا كانت نهضة كفاحيّة وثقافيّة يصبح المسلسل على هامش النقاش، وخارج جدول الأعمال الحقيقيّ. بوضعيّتنا العامّة، نحن الشعب الفلسطينيّ نحدّد مدى الأثر، ولسنا مجرّد متلقّين للمشهد، بل من صنّاعه وصانعاته، ولا بدّ من التعاطي مع مسألة سهولة العبث بجدول أعمالنا، وكي لا ننحصر في خانة ردّ الفعل، ولا أقلّل من أهمّيّة ردّ الفعل حين يتطلّب الأمر، لكن عدم الانزواء فيه.

 

الضوء في آخر نفق الفوضى

لا بأس لنا أحيانًا في أن ننظر إلى مواطن قوّتنا؛ ففي صراع الروايتين النقيضتين يرى الإسرائيليّ بدولته أنّها المعجزة، وفي روايتنا والقيام من بين الركام نرى أنّ الشعب الفلسطينيّ، بما فيه أراضي 48، بصموده ونضاله التحرّريّ والحقوقيّ رغم تعثّراته، هو المعجزة بالمفهوم الإنسانيّ للكلمة.

«فوضى» ليس خياليًّا، بل مأخوذ من واقع السيطرة والاحتلال والاستعمار الاستيطانيّ. الواقع أصعب من «فوضى»، إنّه أكثر فوضى من «فوضى».

 

 

تسمية

 

 

أسير سياسيّ فلسطينيّ محرّر. عمل قبل اعتقاله مديرًا لـ "اتّجاه - اتّحاد الجمعيّات الأهليّة"، كما شغل منصب رئيس لجنة الحرّيّات المنبثقة عن لجنة المتابعة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948. يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.