لجان التحقيق في إسرائيل: بناء قضية ضد المواطنين العرب عبر "لجنة أور" (2/6)

ملصق لمحمّد غالب خمايسي، أحد شهداء هبّة أكتوبر (تشرين الأوّل) عام 2000

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

في الجزء الأوّل من سلسلة المقالات هذه، تناولت لجان التحقيق وطبيعتها، بصفتها ممارسة سياسيّة في الدولة الاستعماريّة الحديثة، في إطارها النظريّ، وعبر التعرّض لملاحظات بيار بورديو عن لجان التحقيق وآليّات عملها في الدولة الحديثة.

في هذه المقالة، سأتناول بشيء من التفصيل، النظريّ والعمليّ، "لجنة أور"، الّتي شُكّلت للتحقيق في أحداث أكتوبر/ تشرين الأوّل، الّتي أدّت إلى استشهاد 13 فلسطينيًّا من فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948. تشكّلت اللجنة برئاسة قاضي المحكمة العليا ثيودور أور، وإلى جانبه نائب رئيس المحكمة المركزيّة في الناصرة القاضي سهيل جرّاح، والأستاذ الجامعيّ المستشرق البروفسور شمعون شمير. أصدرت اللجنة تقريرها النهائيّ عام 2004. وفي هذه المقالة، نتعرّض لمسألة بناء "لجنة أور" قضيّة ضدّ المواطنين العرب، بوصف خروجهم للتظاهر ابتداء من الـ 29 من سبتمبر/ أيلول 2000، بوصف هذا الخروج خروجًا على الدولة وحكم القانون. وفي مقالة أخرى، نتعرّض لمسألة بناء القضيّة ضدّ المواطنين العرب، لكن عبر توجيه الاتّهامات بالتحريض، وتحميل المسؤوليّة للقيادة العربيّة، واقتصار مسؤوليّة الحكومة الإسرائيليّة وأجهزتها، على أنّها "أخطاء جرّاء الإهمال والخطأ البشريّين".

 

الدولة، والفرد، والمؤسّسة

"على المواطنين العرب أن يتذكّروا أنّ إسرائيل تُشكّل تجلّي أماني الشعب اليهوديّ بدولة له، دولة وحيدة فيها أغلبيّة يهوديّة. وفي المقابل، على الأغلبيّة اليهوديّة أن تتذكّر أنّ الدولة ليست دولة يهوديّة فقط، وإنّما ديمقراطيّة أيضًا. وعلى الأغلبيّة أن تُدرك أنّ الأحداث الّتي حوّلت العرب إلى أقلّيّة في الدولة كانت بالنسبة إليهم كارثة قوميّة، وأنّ اندماجهم داخل دولة إسرائيل كان منوطًا من جانبهم بتقديم تضحيات مؤلمة"[1].

يسهم هذا النظام الثنائيّ في النهاية في خلق مؤسّسة، بوصفها إطار عمل تجريديّ منفصل عن الممارسات الخاصّة الّتي تضعها، وفي خلق واقع يأخذ شكلًا ثنائيّ الأبعاد للفرد مقابل الجهاز، الممارسة مقابل المؤسّسة، والحياة الاجتماعيّة وبنيتها أو مجتمعها مقابل الدولة

يشتغل تقرير "لجنة أور" شكلًا على التوصيف المجرّد للأزمة، وكذلك على عرض جذور الأزمة، الّتي في نظره أدّت إلى أحداث أكتوبر/ تشرين الأوّل، على عرضها باختصار شكليّ تقنيّ. في الفقرة السابقة، تظهر اللجنة - عبر خطاب عقلانيّ وعمليّ ووعظيّ في الآن ذاته - تظهر على أنّها الممثّل للأنا الأعلى، للكيان المُتخيَّل المُسمّى بالدولة؛ هي مَنْ ينطق باسم هذا الكيان ليحافظ على وجوده ويمنع انهدامه، وفي الآن ذاته تشتغل شكليًّا على إقامة المسافة بينها وبين ما تمثّله - أي الدولة - وما بين المجتمع المنقسم على نفسه بين أغلبيّة يهوديّة وأقلّيّة عربيّة. هذا الاشتغال الشكليّ على إقامة هذه المسافة نابع من طبيعة مؤسّسات الدولة الحديثة، والتراتبيّة الّتي تحكم عملها وتنسّق وظائفها، والّتي تسهم في نهاية الأمر في بناء عالم يبدو أنّه يتألّف من مجموعة من الممارسات الاجتماعيّة، لكن أيضًا من نظام ثنائيّ، حيث الأفراد وأنشطتهم من جهة، ومن جهة أخرى ثمّة هيكل خامل يتفرّد بطريقة ما عن الأفراد، يسبقه ويحتويه في آن.

يسهم هذا النظام الثنائيّ في النهاية في خلق مؤسّسة، بوصفها إطار عمل تجريديّ منفصل عن الممارسات الخاصّة الّتي تضعها، وفي خلق واقع يأخذ شكلًا ثنائيّ الأبعاد للفرد مقابل الجهاز، الممارسة مقابل المؤسّسة، والحياة الاجتماعيّة وبنيتها أو مجتمعها مقابل الدولة[2]. وفي هذا الواقع الثنائيّ الأبعاد، تنطق اللجنة بوصفها النبيّ المناقبيّ، الّذي بِمُكْنَته مخاطبة المؤسّسة ومخاطبة الأفراد في آن معًا؛ يمكن وصف فقرة كالواردة أعلاه، بأنّها لسان الدولة الّذي ينطق مخاطبًا ما يتشكّل منه أصلًا: الفرد والمؤسّسة.

 

بناء القضيّة؛ الدولة في مواجهة "الخارجين على الدولة"

بوصفها "فعلًا دولانيًّا"، وكما أنّها تشتغل على أن تكون أداة تطهيريّة للمجتمع من شروره الأيديولوجيّة، فهي في حيادها المشهديّ الّذي تقيمه عبر إقامتها لمسافة بينها والدولة وأفرادها، تشتغل أيضًا على أن تكون مَحكمة للآخر/ الضحيّة. وحتّى تتمكّن اللجنة من محاكمة الضحيّة، لا بدّ إذن من تجريم التظاهر، بوصفه فعلًا معاديًا للدولة. في حين تظلّ أفعال الدولة نفسها - اعتداءات المواطنين اليهود الإسرائيليّين، وتصرّف الحكومة الإسرائيليّة -، كلّ هذه الأفعال، تظلّ في سياق "ردّ الفعل" على العنف العربيّ القوميّ والمعادي للدولة، أو في سياق "الخطأ البشريّ"، و"الإهمال الإداريّ"[3].

ما الدولة عند "لجنة أور"؟ سؤال لا تطرحه اللجنة، مجرّد طرحه سيُدخلها في دوّامة لا تنتهي من الأسئلة والتخبُّط النظريّ والأيديولوجيّ. لكنّ الدولة - كما هي في سياق خطاب "لجنة أور" - هي الاسم الآخر للأيديولوجيا المهيمنة لحقل السلطان.

في هذا السياق تتعرّض اللجنة للمستوى السياسيّ العربيّ، عبر ما أسمته "التحوّل الراديكاليّ" لدى العرب في إسرائيل، وقد نسبته إلى تيّارين أساسيّين، هما القوميّ والإسلاميّ. وحسب اللجنة؛ فإنّ أحد المؤشّرات الراديكاليّة لدى هذين التيّارين تشديدهما على مسألة الهويّة الوطنيّة، إضافة إلى القوميّة والدينيّة بصفتها جزء مركزيّ من عملهما السياسيّ، إلّا أنّ تحليل اللجنة يتّسم بالتبسيط، إضافة إلى انعدام التعاطف، خاصّة وهو ينظر إليهما بلا أيّ اعتبار لتعريفهما لنفسهما، وباختيار اللجنة للدولة كنقطة المركز الّتي تنظر منها إلى الأشياء وتحلّلها[4].

"اللجنة قرّرت أنّ القيادة العربيّة عليها أن تُظهر قدرًا أكبر من المسؤوليّة في رسائلها وسلوكيّاتها. اعتناق العنف وسيلةً لتحقيق الأهداف، حتّى الشرعيّة منها، لا يتوافق مع ضرورة تصرّف القيادة بمسؤوليّة؛ لأنّ الرسائل الّتي يرسلونها بإمكانها أن تُحدث خطرًا فوريًّا على السلامة العامّة، وعلى المدى الطويل، خطرًا على النسيج الاجتماعيّ ... اللجنة تؤكّد أنّ مفهوم المواطنة يتعارض مع تمثيل الدولة على أنّها العدو"[5].

ما الدولة عند "لجنة أور"؟ سؤال لا تطرحه اللجنة، مجرّد طرحه سيُدخلها في دوّامة لا تنتهي من الأسئلة والتخبُّط النظريّ والأيديولوجيّ. لكنّ الدولة - كما هي في سياق خطاب "لجنة أور" - هي الاسم الآخر للأيديولوجيا المهيمنة لحقل السلطان - كما هي عند بودريو - لشبكة علاقات السلطة المتداخلة ببعضها بعضًا كما عند فوكو. أمّا الولاء للدولة فهو - بمعنًى آخر - الانصياع للأيديولوجيا المهيمنة الّتي يمارسها بشر يشغلون مؤسّسات اتّخاذ القرار في الدولة[6]. لكن في إسرائيل ما من عقد اجتماعيّ بين المواطنين العرب واليهود، وإنّما بين الأغلبيّة اليهوديّة مع ذاتها. الدولة دولة اليهود، الّتي أُقيمت على أنقاض المواطنين العرب، وحدود السياسة الشرعيّة في إسرائيل، أي حقل السلطان الشرعيّ/ الرسميّ، هي حدود الإجماع الصهيونيّ[7].

 

تسويق الوهم

إذن، عودةً إلى مشهديّة بورديو، نجد أنّ "لجنة أور" تُسوِّق وهْمًا متّفَق عليه إسرائيليًّا، موجود بالاعتقاد؛ اعتقاد قضاة "لجنة أور" على الأقلّ، وتُطالِب المجتمع العربيّ بأن يكون مواليًا لهذا المشروع/ الوهم. المشروع الّذي أُقيم أصلًا على أنقاض الوجود العربيّ، والّذي، في جوهره، يميّز تمييزًا حادًّا وصارمًا في المواطنة والحقوق بين اليهوديّ والعربيّ، على أساس عرقيّ وقوميّ. ومع ذلك، تبني اللجنة قضيّتها ضدّ المجتمع العربيّ استنادًا إلى ما تصِفه عبر مجمل خطابها بالعصيان/ التمرّد العربيّ على الدولة، وخاصّة القيادة العربيّة.

في هذا المشهد، تشتغل اللجنة على بناء قضيّتها ضدّ العرب، في مشهد فيه تُمثّل وهْم الدولة، والدولة هي مركز النظر إلى الأشياء، المركز المحايد العقلانيّ الّذي لا يفرّق خطابيًّا بين مواطن وآخر، ومن منطق الرؤية هذا تُدين المجتمع العربيّ بوصفه قوميًّا، ومتطرّفًا، ويعتنق أيديولوجيا معادية للدولة.

"تعريض السلامة العامّة للخطر"، "احترام حكم القانون"، وغير ذلك من التعبيرات والمصطلحات الّتي تستخدمها الدولة، في إشارة إلى خروج المواطنين عن حكم القانون، وتذكير القيادة العربيّة بواجباتها بحثّ الجماهير العربيّة للحفاظ على النظام العامّ

"تعريض السلامة العامّة للخطر"، "احترام حكم القانون"، وغير ذلك من التعبيرات والمصطلحات الّتي تستخدمها الدولة، في إشارة إلى خروج المواطنين عن حكم القانون، وتذكير القيادة العربيّة بواجباتها بحثّ الجماهير العربيّة للحفاظ على النظام العامّ. لكن ما معنى النظام العامّ؟ النظام العامّ يعني السيطرة الإثنيّة، إذا وُجدت هذه السيطرة كان ثمّة نظام عامّ، وإذا غابت غاب ولم يعد له وجود[8]؛ فالحفاظ على النظام العامّ، يعني إذن، بالضرورة، الحفاظ على النظام الإثنيّ، أي الحفاظ على حالة الانصياع والخضوع للسيطرة الإثنيّة، الّتي تمارسها أجهزة الدولة على الأقلّيّة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة عام 1948. هذا تمامًا ما تجد "لجنة أور" الخروج عنه بمنزلة الخروج على الدولة، وهو ما يتّضح في إشارتها إلى أنّ الخطاب العربيّ في أراضي 48، يتشابه وخطاب المنظّمات والأفراد في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، الّذين يخوضون كفاحًا مسلّحًا ضدّ الدولة.

 

ولاء أو عداء

تحاول اللجنة إذن، بناء قضيّتها ضدّ المواطنين العرب استنادًا إلى محور ثلاثيّ، وهو: الاحتجاج - التحريض - العنف؛ إذ تحاول اللجنة رسم حدود عمليّة الاحتجاج، متى يكون شرعيًّا، ومتى لا يكون شرعيًّا؛ إذ تحدّد كما هو موضّح في الفقرة أعلاه، أنّ الاحتجاج الشعبيّ خارج "حكم القانون".

ومن ثَمّ، لاحقًا، ستُقيم قضيّتها ضدّ كلٍّ من عزمي بشارة، وعبد المالك دهامشة، والشيخ رائد صلاح، بصفتهم ممثّلين عن القيادة العربيّة، وتدينهم بتحريض الجماهير العربيّة في أراضي 48، وتحمّلهم المسؤوليّة عمّا آلت إليه الأمور

إضافةً إلى ذلك، تضع الخطاب العربيّ الّذي رافق احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأوّل 2000، في موضع الخطاب المعادي للدولة، الّذي يتماثل مع خطاب التنظيمات والأفراد في الضفّة الغربيّة، الّذي يخوض كفاحًا مسلّحًا ضدّ الدولة؛ وهو ما يجعله غير شرعيّ، ويجعل معتنقيه مُعادين للدولة آنذاك. ومن ثَمّ، لاحقًا، ستُقيم قضيّتها ضدّ كلٍّ من عزمي بشارة، وعبد المالك دهامشة، والشيخ رائد صلاح، بصفتهم ممثّلين عن القيادة العربيّة، وتدينهم بتحريض الجماهير العربيّة في أراضي 48، وتحمّلهم المسؤوليّة عمّا آلت إليه الأمور. بكلماتٍ أخرى؛ تنزع اللجنة أيّ طابع شرعيّ وهويّاتيّ وقانونيّ وإنسانيّ عن المظاهرات العربيّة، ومن ثَمّ عن مطالبها، وتضع العربيّ في أراضي 48 بين خيارين؛ إمّا الولاء المُطلَق للدولة – أيًّا كان ما يعنيه هذا الولاء - وإمّا أن يكون في موقع العدوّ للدولة؛ وهذا حتمًا يعني أن يُعامَل معاملة العدوّ.

..........

إحالات

[1] The official summation of the OR Commission Reoport, Seeds of peace, p. 1.

[2] Mitchell, Timothy. “The Limits of the State: Beyond Statist Approaches and Their Critics.” The American Political Science Review, vol. 85, no. 1, 1991, pp. 77–96.

[3] نمر سلطاني، "تقرير لجنة أور: ما قيل وما لا يقال"، قضايا إسرائيليّة، العدد 11-12 (2003)، ص 86-93.

[4] مروان دلال، "تشرين الأوّل/ أكتوبر 2000 وتقرير لجنة التحقيق"، قضايا إسرائيليّة، العدد 11-12 (2003)، ص 73-85.

[5] Or report, p. 10-11.

[6] مروان دلال، ص 73-85.

[7] المرجع نفسه، ص 73-85.

[8] نمر سلطاني، ص 86- 93.

 

للاطّلاع على سلسلة المقالات السداسيّة بعنوان "لجان التحقيق في إسرائيل"، اضغط هنا.

 

أنس إبراهيم

 

 

كاتب وباحث. حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسيّة من جامعة بيرزيت، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة في الجامعة نفسها. نشر العديد من المقالات في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة في الأدب والسينما.