أيمن صفيّة... سبح في الهواء لخفّته

الراقص الراحل أيمن صفيّة (1991 - 2020)

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"KEEPMOVING#" كان ما كتبه أيمن صفيّة وسمًا مرافقًا للفيديو الأخير الّذي نشره عبر صفحته في فيسبوك، وهو يرقص في مطبخ بيته في حيفا، وقد ظلّ يرقص بعدها مدّة أربعة أيّام في بحر لا يهدأ موجه، بين شاطئي قريتي الطنطورة وكفر لام المهجّرتين.

أيمن، راقص ومصمّم رقصات ومدرّب للرقص، يبلغ من العمر 29 عامًا، توجّه لفنون التعبير الجسديّ منذ صباه، ليكون أوّل شابّ فلسطينيّ يحترف الرقص المعاصر ويبلغ به العالميّة؛ إذ بعد دراسته في عدد من مدارس الرقص في فلسطين، توجّه إلى لندن وأقام فيها مدّة 6 سنوات، حيث درس في "مدرسة رامبريت للباليه والرقص المعاصر"، وشارك في عروض ومشاريع مختلفة، ثمّ التحق بمشروع "بَدْكِة" (2013)، من إنتاج "مؤسّسة عبد المحسن القطّان" و"المسرح الفلمنكيّ البلجيكيّ" و"فرقة لي باليه سي دي لابيه"، الّذي أسفر عن عرض راقص شاهده عشرات الآلاف في أكثر من 100 حدث حول العالم، وهو عرض يستلهم الموروث الفلسطينيّ ويدمجه بأنواع رقص من مدارس فنّيّة معاصرة مختلفة.

 

 

قرّر أيمن أن يعود إلى فلسطين بعد ذلك، ليدرّب في عدد من مؤسّسات الرقص والفنون، ويشارك في إنتاجات مختلفة، جماعيّة وخاصّة، ويوظّف معرفته وفلسفته حول الجسد وفنونه لتطوير حقل الرقص المعاصر والتعبير الجسديّ في بلاده؛ وكان آخر ما عمل عليه إنتاج مشترك مصوّر مع الفنّانة شيراز عزّام وآخرين، عنوانه "سبح في الهواء لخفّته" (2020)، بالإضافة إلى إنتاجات مصوّرة لم تُنشر بعد مع الفنّانة تيريز سليمان، وكذلك مع الفنّان ريمون حدّاد.

ذهب أيمن إلى شاطئ عتليت يوم 24 أيّار (مايو) 2020، ليحتفل بيوم ميلاد صديقةٍ له مع مجموعة من الأصدقاء، وقد سحبه موج عالٍ خلال سباحتهم؛ ومنذ ذلك الحين فاضت وسائل التواصل الاجتماعيّ والمنابر الإعلاميّة بصوره وفيديوهاته المليئة بالحياة والفرح والإبداع، وانتشرت الدعوات والصلوات والنصوص والتصميمات الّتي تتمنّى السلامة له، راجيةً أن تحصل المعجزة ويفاجئ الجميع بعودته. كما انطلقت مبادرات شعبيّة للبحث عنه وسط اتّهامات للشرطة الإسرائيليّة بالتقصير والتقاعس؛ فقصد المنطقة الّتي اختفت آثاره فيها مئات المتطوّعين، إلى جانب أصدقائه وأبناء عائلته وبلده – كفر ياسيف، ومن ضمنهم غوّاصون وأصحاب مراكب وصيّادون، أتوا من جسر الزرقاء، وعكّا، والفريديس، وغيرها.  

أُعْلِنَ مساء اليوم، 27 أيّار (مايو)، عن إيجاد أيمن صفيّة وقد فارق الحياة، في نهاية تراجيديّة قطعت مشواره الفنّيّ والقيميّ اللّافت والغنيّ على نحو مباغت.

توجّهنا في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة إلى مجموعة من الفنّانين والمشتغلين في حقل الثقافة الفلسطينيّة، ممّن عايشوا أيمن وعملوا معه وعرفوا تجربته عن كثب، لتسليط الضوء على جوانب مهنيّة، وفنّيّة، وتربويّة، وإنسانيّة في مسيرته.

أيمن مع طاقم عمل "بين عالمين" من إنتاج "جمعيّة الأمل"

 

مقاتلنا الجميل

سمر حدّاد كينج، مخرجة فنّيّة ومؤسّسة فرقة "يا سمر" للرقص المعاصر، كتبت عن تجربة عملها مع أيمن صفيّة على مدار 6 سنوات:

عندما تعمل مع راقص، فإنّك تعمل مع مخاوفه، آماله، رغباته، غضبه، إرادته، حبّه؛ نضع قواعد للّعبة خلال إنتاج عمل جديد. لكن مع أيمن، فإنّ ما يمكن أن يعطيه أكبر من القواعد، حتّى لو حاولت إلزامه بها. العرق، الدم، الدموع، العطاء غير المحدود، الضحكات الصاخبة، لا تتوقّف أبدًا عن التدفّق. لقد كان لي شرف العمل مع أيمن مدّة 6 سنوات، كان لي شرف تدريبه ورؤية ثمار جماله تنتشر عبر الأستوديوهات والمنصّات حول العالم. كان لي امتياز مناقشته وإيجاد الحلول معه، أن أتعلّم منه. ولخسارته المفجعة أثر شخصيّ وجماعيّ، في كلّ المجتمعات والأطر الّتي كان جزءًا منها، بشكل يتعذّر قياسه.

بعد أكثر من خمسين ساعة سفر مباشرة تقريبًا، والاستجوابات، فالسفر مجدّدًا، فالانتظار، ها هو أيمن مع سماء وبرجس ومرح، يصلون تونس من فلسطين، بعد تحذيرات عديدة من سلطات دول مختلفة حتّى يتوقّفوا، لكنّهم استمرّوا، وضدّ كلّ الاحتمالات، فعلوها.

بعد 24 ساعة من دوس قدمه التراب التونسيّ، قدّم أيمن واحدًا من أفضل عروضه الّتي شهدتها خلال مسيرته، الّتي توقّفت الآن بغتة، في حضرة هدير جمهور يهتف واقفًا على قدميه. بعد العرض، دُعينا إلى عشاء للاحتفال بالإنجاز الّذي حقّقوه، بفنّهم الرهيب. أمّا أيمن، عاشق الاحتفالات، فكان قد ذهب إلى غرفته. وجدته هناك يرتجف بعد العرض، من شدّة الإعياء، عاطفيًّا وجسديًّا. لقد منح كلّ ما عنده إلى درجة لم يستطع معها منح المزيد، وكان بحاجة إلى أن يرتاح.

في اليوم التالي اعتذر مجدّدًا عمّا إذا تسبّب بعدم قدرة المجموعة على الاحتفال. هكذا كان هو، عميقًا في وقاره. أمسكنا بأيادي بعضنا، ووعدته بأنّنا سنعود إلى تونس يومًا، وفي ظروف مختلفة، للاحتفال، وأخبرته أنّ عليه الآن أن يكون فخورًا بكونه مقاتلًا.

سنشتاق إليك، مقاتلنا الجميل.

أيمن وسمر حدّاد كينج خلال التدريبات على عمل "ظلّ الغمام"

 

وها أنت تعود...

خالد عليّان، مدير "مهرجان رام الله للرقص المعاصر"، كتب عن المشاركة الدائمة لأيمن صفيّة، راقصًا ومدرّبًا في المهرجان وفي مشهد الرقص المعاصر في فلسطين:

"قلوبنا مليئة بالآهات يا أيمن، وكم كان حضورك على المسرح يملؤها فرحًا وطاقة. عرفت أيمن عام 2014، عندما كان في أستوديوهات "سريّة رام الله"، يستعدّ لافتتاح عرض "Bound" الّذي أنتجته السريّة مع سمر حدّاد كينج، وكذلك لتقديم عرض "بَدْكِة" من إنتاج "مؤسّسة عبد المحسن القطّان" و"فرقة لي باليه سي دي لابيه"، وذلك في حفل اختتام "مهرجان رام الله للرقص المعاصر".

قال لي في حينه "هذا مهرجاني، وسأكون حاضرًا فيه كلّ عام"، ومنذ ذلك اليوم لم يغب. قالي إنّ هذا المكان يجمع كلّ شباب فلسطين، من حيفا، والقدس، ورام الله، وكفر ياسيف، ونابلس، وغيرها. أمّا هو، فلطالما جمع الراقصات والراقصين حوله، يدرّبهم ويرشدهم، وكان يصرّ على أنّ مهرجانًا واحدًا لا يكفي، لأنّ هناك مَنْ يريد المزيد، ولأنّ هناك مَنْ يرغب في أن يمنح أكثر.

أيمن، لا أنسى ألوان قميصك المُوَرَّد في عرض "بَدْكِة"؛ كنت ترغب في أن تصنع فرحًا وبهجةً لدى الناس. أصدقاؤك، وكلّ مَنْ صنعت لهم فرحًا وبهجة فعلًا، انتظروك على شواطئ غزّة وحيفا ويافا وبيروت واللاذقيّة والإسكندريّة وتونس والجزائر وطنجة ومرسيليا وبرشلونا، جميعنا كنّا نردّد خلال الأيّام الماضية ما قاله الصديق محمود أبو هشهش: "فلتعد سالمًا يا أيمن من حيث أنت أو حيث كنت! عد على قدميك ماشيًا أو راقصًا، أو مرتكزًا على كتف أحدهم، لكن عليك أن تخيّب ظنّ العدم وتعود حيًّا".

وها أنت تعود، حيًّا فينا، في أرواحنا، حبًّا وجمالًا.

أيمن في إحدى ورشات "مهرجان رام الله للرقص المعاصر"

 

لا أريد أن أكتب لك

الممثّلة المسرحيّة فداء زيدان، من بيت جن، كتبت عن صداقتها لأيمن صفيّة، وعن مشاعرها تجاه فقده، وعن معنى الكتابة عن هذا الفقد:

لا أريد لذاكرتي أن تفتح ملفًّا آخر، فيه بقايا صور لأحلام بقيت شابّة.

لا أريد الكتابة لك، علينا أن نرقص أوّلًا، أن نركض، أن نستمع لمقطوعات العزف الّتي تحبّها، أن نتحرّك، أن تتحرّك وتشقّ الهواء والغيم والسماء.

لا أريد أن أكتب عن لقائي الأخير بك قبل أقلّ من أسبوع صدفةً، على رمال شاطئ آخر لن يدوسه الصدف لأخذك.

ربّما أكتب عن رقصةِ صدًى نبضُها لا زال يطرق خشبة مسارحنا ومسارح العالم كلّه!

ربّما أكتب عن دروسك في الحرّيّة، أو عن بسمة لا يسعها الكون، وجرأة لن أكفّ عن تعلّمها منك.

هل أصفك بصورة واحدة؟ وأيّ صورة وموج البحر يحجبك عنّا؟ فأجد نفسي أعارك وأمشي وأبحث وأتخيّل وأرفض، ومجدّدًا، أمشي وأمشي بين الصخور وعلى الرمل، تارةً أراك باسمًا، تارة أسمعك تناديني، تارة أسمع أنين أمّك فأصرخ مستنجدة بعصا موسى لنشقّ البحر ونراك ترقص مجدّدًا.

لا أريد أن أكتب لك، لأنّنا على وعد راقص، والكتابة لك تستدعي الوداع.

 

احتفاء حرّ وصاخب ومطلق

مصمّمة الرقص شادن أبو العسل، الّتي تدير "جمعيّة المدينة للثقافة والفنون" في الناصرة، كتبت حول عملها المشترك مع أيمن صفيّة، مسلّطة الضوء على جوانب من شخصيّته الفنّيّة ودوره في حقل الرقص المعاصر الفلسطينيّ، وشغفه:

أيمن صفيّة حالة فنّيّة فريدة، سابق للمكان والزمان. امتلك مقاييس فنّيّة وحرفيّة أبعد من حاضر المشهد الفنّيّ الراقص في فلسطين، وهذا كلّه في واقع ثقافيّ وسياسيّ مركّب وهشّ، نفتقد فيه جميعنا حاضنةً حقيقيّة قادرة على استيعاب هذه الحالة الاستثنائيّة. لكن أيمن، وعلى الرغم من ذلك، وبشغف لا حدود له، استطاع أن يطرق كلّ الأبواب المتاحة ليفتحها بقوّة واندفاع نحو الحياة، بكلّ تفاصيلها وتحدّياتها، حياة تخطّى فيها المألوف والمسموح.

في الناصرة، عام 2012، أقمنا مهرجان الرقص المعاصر الأول بعنوان "مساحات الجسد"، ودعونا الفنّان والصديق أيمن ليكون ضيفنا في الأمسية الأولى من المهرجان، وكنّا جميعًا، منظّمين وفنّانين، ننتظر هذا الحدث، ولا أنكر أنّ شيئًا من التوتّر والتساؤل انتابني حول تفاعل الجمهور مع هذه العروض الّتي تعدّ طلائعيّة في مجتمعنا.

كانت ليلة العرض، وشهدنا مسرح محمود درويش الثقافيّ في الناصرة يمتلئ بالحضور، منهم مَنْ حظي بالجلوس في الأماكن المعدّة لذلك، ومنهم مَنْ جلس على درجات المسرح، ومنهم مَنْ بقي في الخارج ينتظر فرصة يتسلّل فيها إلى الداخل. اعتلى أيمن المسرح ورقص، وكان السحر والجمال، وكانت في انتظارنا في اليوم التالي مكالمات عديدة تطالبنا بتنظيم عرض آخر لأيمن، وهكذا كان.

تابعت مسيرة أيمن في مختلف العروض مع فرقة "يا سمر"، وأيضًا في مجال التدريب؛ فحظي طلّاب المدرسة الّتي أديرها باستضافته مدرّبًا للباليه والرقص المعاصر، وكان شغفه في التعليم كبيرًا، تراه يدرّب بمهنيّة وبهمّة وبلهفة لا تصدّق، كأنّه يطالبنا جميعًا باللحاق به وبالتحليق معه إلى الأبعد.

بدأ أيمن في السنة الأخيرة تصميم أعماله الخاصّة؛ فكان عرض "بين عالمين" مع المصمّمة لينا دياب، من إنتاج "مدرسة الأمل للرقص المعاصر"، وأيضًا العمل الراقص "خبز" بالشراكة مع المصمّمة شارون هلل، وصرنا نرى أيمن الباحث والمتأمّل في عمق الحركة والجسد، وفي معاني الحياة.

لا أعلم ما كان في انتظارنا بعد منك يا أيمن؛ فحياتك كانت احتفاءً حرًّا وصاخبًا ومطلقًا، وموتك فاجعة صادمة تليق فقط بأبطال الأساطير، وبك، أيمن.

أيمن وسماء واكيم في عرض مشترك خلال مهرجان "حديث الجسد" | علاء العبدالله

 

أهلًا بك في عائلتنا الصغيرة

الراقص يزن عويدات، وهو زميل لأيمن في العمل الراقص "بَدْكِة"، كتب حول لقائه الأوّل بأيمن، والصداقة والذكريات الّتي جمعتهما، ودوره في المشروع الّذي كانا جزءًا منه:

في أوّل جولة عروض للعمل الراقص "بَدْكِة"، وبعد اختتام العرض الافتتاحيّ في سويسرا، أصيب راقصٌ من الراقصين العشرة، وهو ما سيمنعه من الرقص مدّة سنة على الأقلّ. اجتمع طاقم العمل لاتّخاذ قرار بالاستمرار بالعرض كما هو، فنبقى تسعة أشخاص على خشبة المسرح، أو بإضافة راقص بديل ليكون جزءًا من عائلة "بَدْكِة".

خلال اجتماع مطوّل مع الراقصين والمصمّمين وطاقم العمل، ذُكِر أكثر من اسم، اقتُرحَ اسمك يا أيمن من أوّل الأسماء؛ شابّ موهوب طموح، وكنت قد أنهيت دراستك في "مدرسة رامبيرت" في لندن، وتبحث عن فرصة جديدة.

كان من الصعب علينا أن نفكّر في أنّ شخصًا جديدًا سيقتحم هذا العمل؛ لأنّنا عملنا على تطويره على أكثر من مرحلة، وكان عملًا حميمًا، شخصيًّا، كلّ واحد منّا رسم قصّته على خشبة المسرح، وكتبها بجسده.

بعد أسبوع، كنتَ معنا في بلجيكا؛ أذكر أوّل مرّة تعرفت فيها عليك. كنت أعرف أنّك ستكون شريكي في الغرفة لستّة أشهر قادمة؛ رتّبت السرير الشاغر الّذي سيصبح سريرك، وغيّرت الشراشف والأغطية لأنّني كنت أستخدمه مكانًا لوضع ملابسي الوسخة، وتركت لك رسالةً صغيرة في منتصف السرير: "أهلًا بك في عائلتنا الصغيرة، أعرف أنّك جديد على المجموعة، لكن لا تخف، سنصبح أصدقاء سريعًا"، وهكذا، أصبحت صديقي.

لم أكن أعلم أنّه من الممكن أن نعرف شخصًا كما عرفناك، لم أكن أتخيّل أن نجد شخصًا يجعلنا نضحك بنظرة، ويفهم ما لم نقله بمجرّد النظر في عيوننا، وهكذا كانت علاقتنا. وهكذا كنت، كما أنت، بعفويّتك وطاقتك، وأصبحت جزءًا من عائلتي.

عندما سكنتَ بيتك الأخير في حيفا، تكلّمنا مطوّلًا عن البحر وكيف أنّ لونه وصوته كانا أكثر الأشياء الّتي تحبّها في البيت؛ لون البحر وصوته، رائحة القهوة، صوت فيروز على حاسوبك، سجّادة اليوجا على الأرض.

أكره نبتون، رآك دخلت أرضه، وقرّر أنّه يريدك. لم يترك لنا مجالًا لنودّعك، كان يبحث عن مصمّم رقص لحوريّات المتوسّط، كان يريد الأقوى والأفضل؛ فمَن أرقّ منك؟ اختارك لمعرفته بأنّك مخلص لعملك ودؤوب، وأنّك ستجعلهنّ يرقصن رقصة حياتك ورقصة وداعك من عالم مرئيّ، لتحيا داخل كلّ مَنْ أحبّك.

أيمن، صديقي، أتمنّى أن تكون في عالم يخلو من الأحكام المسبقة، أتمنّى أن تكون في عالم أفضل من عالمنا.

وداعًا أيمن، أحبّك، ستحيا دائمًا في داخلي.

عرض "بَدْكِة"، 2014

 

ثائر

وداد عطالله، مديرة "جمعيّة الأمل للرقص المعاصر" في الناصرة، كتبت عن دور أيمن صفيّة راقصًا ومصمّمًا ومعلّمًا في المدرسة التابعة للجمعيّة، وشغفه بالتدريس، وعلاقته بطالباته وطلّابه، وحضوره في حقل الرقص المعاصر الفلسطينيّ:

أيمن أحد أفراد طاقم "جمعيّة الأمل للرقص المعاصر" وأعمدتها؛ راقص، ومصمّم، ومعلّم. تميّز بحبّه للطلّاب، وإخلاصه في مهنته، وتقديس رسالة التعليم. استغلّ كلّ لحظة ودقيقة في كلّ درس، وكان دائم التأخير في إنهائه؛ لم يكفه الوقت أبدًا. علّم طلّابه أن يحبّوا أنفسهم، أن يثقوا بقدراتهم، علّمهم أنّ الإنسان من دون حلم وطموح ليس إنسانًا.

كنت أسمع صوته خلال الدرس وتحفيزه للطلّاب، أدخل القاعة لأجدهم يتصبّبون عرقًا والابتسامة تعلو وجوههم، وعند طلبي من أيمن إنهاء الدرس لأنّ الوقت تأخّر والأهل ينتظرون، تجيب الراقصات: "لا لا، بسّ نعيد كمان مرّة".

رافق الطلّاب في ورشات في البلاد وخارجها، كان يغار على مصلحة "الأمل" ويبحث دومًا عن مجالات للتقدّم بالجمعيّة والطلّاب، وعمل على لوحات فنّيّة مختلفة وعروض ختاميّة وخاصّة، منها عمل مشترك مع لينا دياب بعنوان "بين عالمين"، حيث أعطى للرقص مفهومًا مختلفًا، واستطاع الوصول إلى قلوب وروح الراقصات والجمهور.

لم يكن أيمن فردًا عاديًّا في "الأمل"، بل كان أحد أعمدتها؛ منحها التميّز وجوانب جديدة لمفهوم الجسد والروح في الرقص. هو زميل للطاقم، أخ كبير للراقصات، معلّم مميّز بما تحمله الكلمة من معنى.

فنّان ثائر، لأنّه تعامل مع الفنّ بمهنيّة، ونشره بحبّ وثقة، وثائر لأنّه استطاع أن يكون راقصًا ومعلّمًا ناجحًا، وثائر لأنّه لم يسر حسب التقاليد، واعتبر حرّيّة الإنسان حقًّا، والحياة حلوة، ولا بدّ من عيشها كلّ لحظة، وثائر لأنّه ابتعد عن التقليد في كلّ شيء، حتّى المأساة الّتي نعيشها الآن بفقده.

أيمن أسفل الصورة من اليمين، مع طاقم "جمعيّة الأمل للرقص المعاصر"

 

رح أضلّني أرقصلك

سلمى عطايا، راقصة من رام الله، وكانت زميلةً له في مشروع "بَدْكِة"، كتبت مخاطبةً أيمن في وداعها له:

 أيمن حبيبي، بتعرف إنّي ما بقدر أعبّر بالحكي، ويا ريت لو بقدر أحكي شو جوّاتي.

كنت كتير مبسوطة إنّي عرفتك بـ "بَدْكِة" وعشنا مع بعض لحظات حلوة ومش حلوة؛ رقصنا، ضحكنا، بكينا، احتفلنا، ولفّينا العالم مع بعض. بتذكّر كيف كنت دايمًا مصدر الفرح والضحك، كنت مليان بالحياة والحبّ. بتذكّر آخر إشي طلبته منّي، إنّه أغنّيلك "بالي معاك" للينا شماميان، كنت بتعرف قدّيش أنا بحبّ أغنّي، كنت دايمًا تخلّيني أغنّي وإنت عارف قدّيش صوتي مزعج.

أحلى أيّام حياتي قضيتها معك ورح تضلّك في بالي، ورح أضلّ أسمع ضحكتك العالية.

إنت كنت مصدر فخر وقوّة إلنا، وصلت لمحلّات واشتغلت ع حالك قدّ ما بتقدر، وما عمرك وقّفت إلّا لتحقّق اللّي بدّك ايّاه.

بحبّك أيمن، ورح أضلّني أرقصلك.

أيمن ومجموعة من زملائه وأصدقائه خلال جولة فنّيّة في كندا